Image title

رآها للوهلة الأولى أمام قاعة الحفل، وهي في لباسها المطرز المحتشم الجميل، واقفة على إستحياء زادها حُسناً وجمالاً وثقةً بالنفس، ترقب والدها لعله يظهر بسرعة فلا تضطر إلى استعراض ما بدا منها من زينة لوقت أطول، لقد كانت جادة في مقصدها، فلم تنتبه لأحد من المارة إلا الذي كانت تبحث عنه، لدرجة أنه ظل متسمراً على مقربة منها يحملق فيها لأكثر من خمس دقائق دون أن تلتفت إليه أو تدرك بوجوده، فقد كانت في عمر الزهور، فتاة لا يمكن لمن عرفها إلا أن يحبها، لم تكن صاحبة أفكار خبيثة، لكنها كانت ذات طبيعة عفوية، ربما أكثر من اللازم!

علم فور رؤيته لوالدها إبنة من تكون، ومضى في طريقه بعد أن رحلا، يفكر في اليوم الذي فيه يراها مرة أخرى، غريب أمره لم يستطع أن يمكث بهدوء بعد لقائهما الأول، أهذا ما يسمى بالحب من أول نظرة؟ ربما.. ظل يفكر فيها ولم يستطع التوقف عن ذلك، ثم قرر إخبار عائلته برغبته في الإرتباط بها، استقبل كل الأهل الخبر بفرح ورغبة، وكيف لا، وقد أبهرهم وشوقهم لرؤيتها بعد مقدمته المثيرة في وصف حسنها وجمالها.

في الجهة المقابلة، لا تزال فتاتنا تلهو مع شقيقها الذي يصغرها بضعة أعوام، لا تعرف الذي يعانيه الشاب ذو القلب المكلوم بعد يوم الحفل ذاك، ولم تمر أيام كثيرة حتى طُرق باب المنزل المعمور، وإذا بالزائرين محملين بالورود والحلوى، لقد كانت الدهشة أكثر المشاعر حضوراً في تلك اللحظة، وبين أخذ ورد، وكلام ومجاملات، تتعالى أصوات النقاش والضحكات في غرفة الإجتماع تارة، ويخيم السكون على المكان تارة أخرى.

الصغار مستمتعون والفتيات من الأهل والأصحاب يوشوشن، ويحاولن إلقاء نظرة على الخاطب كي تقوم كل واحدة منهن بالتعليق على جزئية منه، القاسم المشترك بين الجميع هو تلك الحالة من السعادة والحب، إلى أن يأتي الإذن للمقصودة بالدخول أخيراً، كي ترى الذي جاء يطلبها ويراها، دخلت إليهم وعيناها لا تفارقان الممشى، سلمت على الإناث منهم واكتفت بالابتسامة لكبار الأسرة.. أما هو، فقد تركته محترقاً لا يكاد يراها، قد كانت تختبئ وراء أمها كي لا تعطيه فرصة إمعان النظر فيها، فلم تكن على أية حال ترغب في أن تكسر حاجز الحشمة الذي ألفته منذ مدة طويلة.

طلب الآباء أن ينفرد المعنيان لمدة معينة حتى يتم تأكيد القبول إن حصل، وتكون الكلمة الأخيرة للآنسة المصونة. في تلك المدة التي كانت أشبه بالمتفرج لنشرة الأخبار، ظلت تستمع بإمعان إلى ما يحدثها به، عن نفسه وعن طموحاته وعن مدى رغبته في أن تصير زوجة له وعن كل ما من الممكن أن يقال في تلك اللحظات، دون أن تتفوه بكلمة ترد عليه بها، إلا ما كان من إيحاء بالموافقة أو النفي، حتى أتى وقت الصلاة، وقبل أن يذهب، انتهز فرصة الإختلاء وأخذ وردة من باقة الورد التي أحضرها لها، ثم قدمها لها، لم تفكر طويلاً في الأمر، فقد أخذتها على إستحياء ثم انصرفت تجري إلى أن اختفت على بعد خطوات قليلة منه.


كل يوم بعد ذلك، كان يتصل بها ليعبر عن مدى حبه وتعلقه بها، فإذا مرضت ظل طوال اليوم يتواصل معها ومع أهلها، يطمئن على حالها، يشعرها بوجوده وكأنه معها، أما هي فكانت بمثابة خزان لآلامه وأفراحه، تحاول إسعاده والتخفيف عنه قدر الإمكان، لكنها لم تصرح له يوماً بما يحب أن يسمعه منها، لقد كان دائم الإستياء من عدم نطقها لتلك الكلمة، وفي كل مرة يحصل مشكلة بينهما يرجعه إلى أنها لا تملك عاطفة تجاهه.

أما الأمر فقد كان مختلفاً بالنسبة إليها، لطالما استغربت من قدرته على قولها بتلك البساطة، أحبك! لا أستطيع العيش من دونك! هي الطفلة البريئة، كانت تظن أنها إن قالت ذلك فقد تسجل قسماً لا رجعة فيه، فلم تكن قادرة على النطق بما هو ليس كائن، أما بالنسبة للحب، فهو لا يقاس بعدد المرات التي نصرح فيها بوجوده، فالحب شعور مدلل، لا يحب أن يستهتر به، ولا يحب أن توزع تعابيره إلا على رفقاء الروح، يتملك الإنسان الصادق تجاه الذي يعيش معه للأبد، ثم إنها كان تحافظ عليها لليوم الذي يكون فيه زفافهما، فتسعده السعادتين، سعادة الشعور بالحب وسعادة التصريح به.

استمرت الأيام والشهور بالمضي، حتى باتت تعرفه جيدا كما لم يعرفه أحد من أقربائه، تتوقع أحاديثه وأفكاره وتصرفاته، وبالنسبة له، فقد كان يزور أهلها من حين لآخر ليصل بذلك من تملك قلبه ويزيد الحنين إليه، إقترب اليوم الموعود، وكثر الشوق وصار الوضع أكثر جنوناً.. مرة شجار صامت مؤلم يحيك خيوطه البعد وسوء الفهم، ومرة إعتراف صاخب وسط شارع مليء بالبشر، يصيح فيه كالمجنون: أنا متيم بحب خطيبتي.


بدأت الاستعدادات، وشارفت القصة على النهاية، وغداً القمر بهياً كاملاً مستديراً، وحدث ما لم يكن بالحسبان، عفوية المحبوبة صارت إتهاماً، وزَيَّفَ الكائدون الوقائع، وصار المحب مرتاباً، وشَعَرَتْ بما لم تتمنه لإنسان يوماً، مرارة الخذلان وسطحية الكلمات وكل ما لم تنتظره من عاشق ولهان.

بعد البحث والتدقيق، تكشف الزيف وصار الوضع متضحاً للعيان، وعاد المحب إلى كلامه الجميل وعاد الوضع إلى ما كان عليه، إلا من المحبوبة الحزينة فقد ظلت تتساءل عن فائدة الكلمات إن لم تعبر عن صدق مشاعر الإنسان، لتترك العش يهوي فور انتزاع غريب لقشة من على سطح الجيران!


تلك طبيعة البشر، نتسرع في توجيه أصابع الاتهام وإطلاق الأحكام بلا حجة ولا برهان، دائماً ما كان هذا سبب الخلافات في كثير من الأحيان، وهدم كل الذي بناه الراغب في ثوان، وبالرغم من محاولات المحب بعد ذلك لمداواة الجرح، لم يستطع! فكيف يسترد الإنسان الثقة بالأقوال إن لم تثبتها الأفعال، فما إن يكسر الكأس حتى يفقد إمكانية عودته كما كان!