" لكل بداية نهاية، وهناك نهاية بعد النهاية، هناك شئٌ لم يذكر بعد "

إنتهت الرسالة فأغلقها وأخذ سريعاً يبحث عن الرسالة التالية، فلم يجد سوى رسالة واحدة متبقية، مكتوب على غلافها الرسالة الأخيرة، فتحها فوجدها فارغة لم يكن بداخلها شئ، بدأت التساؤلات تلهث في عقله سريعاً، من هذا الشخص؟ وكيف يرسل رسائل من الموت؟!

فجأة اتسعت بؤرة عينيه وكأنها استقرت على شئ غريب، بدأ هذا الشئ يقترب منه شيئاً فشيئاً حتى وقف أمامه مباشرةً، يعرفه جيداً إنه ذلك العجوز الذي ترك له الرسائل، وقف وظل يحدق في عينيه، ساد الصمت طويلاً بينهما، حتى قطعه العجوز وقال : كيف حالك يا ناجي ؟!

وقف مذهولاً ممسكاً بيده الرسالة الأخيرة الفارغة، وبدأ العجوز بالكلام :

" نعم؛ أنت ناجي كاتب تلك الرسائل وأنا والدك، جئتك لأقص عليك ما قد يعيدك إلى رشدك، أعلم أنك قد لا تعرفني الآن ولكنني أثق أنك ستصدقني، بعد وفاة شادية أصبت بصدمة عصبية جعلتك تفقد وعيك، رفضت الحياة وتمنيت الموت لكن روحك لم تمت، دخلت في غيبوبة طويلة وحين استيقظت تحولت إلى رجل آخر لا يتذكر أي شئ، وفي بعض الآحيان تعود إلى شخصك الحقيقي ناجي وتتذكر كل شئ، ولكن عندك يقين أنك لست حي وتعيش بيننا، كان هذا تشخيص الطبيب النفسي لحالتك، وبعد فترة بدأت تكتب تلك الرسائل، قال الطبيب أن هناك جزء بداخلك هو من يدفعك لكتابة تلك الرسائل، وإذا قرأتها وعلمت الحقيقة وصدقتها وأنت في شخصيتك الآخرى التي تتقمصها الآن قد تعود إلى طبيعتك وتشفى، إسمعني جيداً يا بني، الفراق قدر من أقدار الحياة وسنة من سنن الله فينا، هو أشبه بإمتحان توضع فيه قسراً في كل مرحلة من مراحل حياتك، شبح يطاردك منذ ميلادك حتى مماتك، يتمكن منك في كل مرة تحاول أن تنتصر عليه، قد تجده في صورة جار رحل عنك بعدما سكن بجانبك عمراً قاسمك فيه البسمة والدمعة، أو حينما يغادرك صديق أعانك بحبه على رفع هموم الأيام، أو عندما يغادرك حبيباً أعطاك كل ما في قلبه من حب، أمسك بيدك ووضعك على الطريق الصحيح وفي لحظة رحل عن الدنيا وتركك لإكمال الطريق وحيداً، ولأن الله رحيم فقد جعل بعد كل ليل سرمدي نهار مشرق ومضئ، وبعد كل سحابة معتمة مطر يجلب الخير والرزق، وجعل الصبر على تلك المصائب والأوجاع ثواب وأجر لصاحبه، كانت شادية تعلم أنها قد تموت عند الولادة لذلك كتبت لك رسالة وطلبت مني أن أعطيك إياها إذا حدث ذلك، وربما قد حان الوقت الآن لأن تأخذها.

أخذ الرسالة منه وبدأ يقرأ والدموع على حافة عينيه تنتظرالإذن للنزول :

" زوجي وحبيبي ورفيقي وصديقي، لقد أخبرني شخص ما ذات يوم أن لكل واحد منا طريق، وطريقي يقودني دائماً إليك، فقط لو أنني كنت أستطع الهرب منك، ولكن إلى أين كنت سأهرب، العالم قبيح وبرغم القبح في هذا العالم كنت أرى جمال الدنيا في عينيك، أعلم أنك تفتقدني الآن، وأعلم أن طيفي يمر عليك فتبتسم وتتذكر ضحكاتنا وحديثنا الطويل، أعلم أنك تذكرني في اليوم ٤٨ ساعة وتحبني في اليوم ألف مرة، تماماً كما أذوب أنا فيك عشقاً، ولكنك تعلم الآن أنا طريقنا لم يعد واحداً، وأن مستقبلنا لم يعد معاً، لا أطلب منك أن تنساني، ولكني أريد أن تعدني أن تكون بخير، فأنا دائماً سأكون معك كما أخبرتك، فأنا أستوطن قلبك وعقلك .. "

أغلق الورقة وانهمرت الدموع من عينيه، وكأنها تريد أن تذهب لمواطن الجرح فيه لتضدمها، مضى بقدميه يتحسس الطريق نحو ذلك الصوت الذي شعر بأنه يناديه، صوت يجذبه نحوه وكأنه يخبره أنه قد وجد ما كان يبحث عنه، فجأة وجد نفسه أمام بيته، صعد الدرج وهو يشعر أنه اقترب من مصدره للغاية، دخل البيت ثم فجأة توقف الصوت واختفى، نظر أمامه إلى النافذة ليظهر أمامه شخص يكاد يعرفه، رجلٌ ذو قامة طويلة تضعه في مصف الوسماء، ليس بالأبيض ولا بالأسود ولكنه يميل إلى اللون الخمري في أزهى درجاته، يرتدي نظارة عريضة تخفي عينيه الضيقتين وترسم تناسقاً هائلاً مع شعره المصفف ولحيته المنسقة وجسده النحيف، ظل ينظر إلى نفسه الذي يراها في إنعكاس زجاج النافذة وكأنه يواسيها، ثم فجأة تغيرت ملامح وجهه وأزال النظارة ثم فتح النافذة ورماها، أخرج الرسالة الأخيرة الفارغة التي كانت معه، جلس على طاولة بالقرب منه وبدأ يكتب :

" اعتدت أن أراكِ مُختبئةً بين السطور في الكتب، فتكوني أكثر الكلام وضوحاً، اعتدت أن تكون روحك حاضرة معي، فتكوني أكثر من الحاضرين حضوراً، اعتدت أن تكون رائحتك في العطر الذي يعرضه علي البائع، فتكون رائحتك هي العطر، اعتدت أن السعادة تشبهك أو لعلها أنت، كما اعتدت أن الحزن جميل لأنه يسكنك، والعالم ليس إلا ما تراه عينيك، والحب ليس إلا مشاعرك تجاه الأشياء، والسماء ليست إلا انعكاس من نفسك، والبحر ليس إلا عطاءك، اعتدت أن كل هذا طبيعي، كما اعتدت أنكِ بقدر حضورك، لن تكوني حاضرة .. هذا أنا ناجي أكتب رسالتي الأخيرة، ولكنها ليست إلى شخص مجهول، بل أكتبها إليك أنت يا شادية، وأما بعد .. فليس بعدكِ بعدَ.


النهاية .