-أعلم أنه ليس مُرحباً بي هنا، فقد رفضتي عندما طلبت إذنك للمجئ.
-رفضت لأجلك أنت فمجيئك لن يفيد بشئ.
-نفس الكلام تكررينه كل مرة ولكني لا أستطيع منع نفسي من المجئ لرؤيتك، لم أقدر على التحمل أكثر، فشوقي إليكِ ..
-وهل خف شوقك عندما جئت؟ .. وهل ستذهب بعد لقائنا أحسن حالاً؟ .. أكرر نفس الكلام الذي مللته كل مرة علك تفهم، علك تقتنع، ولكنك كعهدي بك عنيدٌ تسمع فقط ما يمليه عليك قلبك، ظننتُ أن مرور السنوات واللون الأبيض الذي طغى على رأسك قد يستطيعوا ترويض عنفوان مشاعرك ولو قليلاً لتمضي بحياتك وتسعد بها بدوني.
-بدونك؟! أهذا ما تريدين قوله؟ تريدينني أن أحيا سعيداً بدونك، تريدينني أن أمحي أثارك المحفورة بكل ذرة في كياني، لم تكتفي بأن تتركيني وحيداً وترحلي، تطمعين أيضاً في أن أنسى.
-كلانا يعلم أن الرحيل لم يكن بإختياري، وتعلم أنني لم أعشق في عمري أحداً سواك ولكنه القدر، قدرنا رفض أن نبقى سوياً وكان من العبث أن نحاول مقاومة القدر، لم يكن بأيدينا شئ سوى أن نفترق ويذهب كل منا في طريقه.
-أعلم أن تركي لم يكن بإرادتك فرضيت به وقتها، ولكنك إستغليت حبي لكِ وضعفي تجاهك ولم تكتفي برضاي فقط، بل أجبرتيني على الزواج من غيرك بعد أن كنت أقسمت على ألا أفعل ذلك.
-رجوتك أن تتزوج لتحقق ما كنا نحلم به معاً، أردت أن يكون لديك المنزل والأسرة، أن تنجب أطفالاً وتغمرهم بالحب الذي يملأ قلبك .. أتذكر؟ مهندساً وطبيبة .. كما تمنينا سوياً.
-توقفي عن قول ذلك، تمنيت أبنائاً ليكونوا رابطاً جديداً يقربنا أكثر، حلمت بأسرة ومنزل ليجمعاني بكِ أنت وليس بإمرأة آخرى، فقد كانت جميع أحلامي بك ولك، بدونك كانت مجرد كوابيساً، كان يجب ألا أطيعكِ منذ البداية، فعندما ذهبتي أردت اللحاق بكِ وكنت سأفعل لولا إعتراضك .. أتذكرين، يوم وداعنا عندما أرغمتيني على أن أعدك بألا ألاحقك، ومن وقتها وكل مرة نلتقي فيها بعد فراق طويل تطالبينني بالمزيد.
-لحاقك بي لم يكن سيأتي من ورائه أي خير، فلم يكن هناك ما يضمن أننا سنكون معاً إن فعلت بل وكنت ستغضب كل من حولك وتزيد سخطهم على علاقتنا اكثر، وأما عن زواجك، فلا تنكر أن زوجتك سيدة جميلة شكلاً وخُلقاً، أنت نفسك من شهد لي بذلك مراراً كلما تلاقينا.
-ليتها لم تكن كذلك فكلما زادت طيبتها معي يزيد إحساسي بالذنب، فطوال أربعة وثلاثون عاماً مروا على زواجنا وأنا أحاول جاهداً أن أبادلها حبها ولكني لا أقدر، كثيراً ما كانت تجدني سارح البال مبتسم الشفاه فتفرح ظناً منها أن الإبتسامة لها، غير مدركة أن أغلب الأوقات التي كنت أبتسم فيها كان السبب يرجع لكلمة أو موقف يضيئوا نور ذكراكِ بداخلي .. لم أنساكِ أبداً، ولكن كانت تمر أوقات أشعر فيها بأن إنشغال العمل أو مسؤلية البيت قد وضعوا غطاء ثقيلاً فوق مشاعري تجاهك يُبهت بريقها قليلاً فأظن واهماً أنني قد نسيت، ولا يمر الكثير من الوقت حتى أسمع أحداً ينادى بإسمك أو أرى عيوناً تشبه عيناكِ، فيكون هذا كفيلاً بأن يكوّن شرارة تشعل نيران هواكي أكثر وأكثر، أفعل لزوجتي المسكينة كل ما تطلب، أعطيها كل ما تريد إلا قلبي، حاولت أن أحبكما معاً فلم أستطع، وكأن الذنب الذي يأكلني لم يكن كافياً، فجئتِ بعد فترة من زواجي لتطلبي مني أن أتوقف عن رؤيتك تماماً، صرت تبخلين علي حتى بهذا اللقاء السري كل بضعة شهور أو أعوام، دقائق اللقاء التي كانت تمدني بالطاقة لأستمر بالتمثيل على الجميع بأني أعيش بدونك بخير، تمدني بالحياة كلما شعرت أن جسدي قد أصبح هيكلاً خاوياً يتنفس بحركة آلية بدون الشعور بشئ.
-طلبت عدم اللقاء عندما شعرت بمعاناتك من الذنب تجاه زوجتك، كنت أخشى أن يأتي اليوم الذي تراك فيه معي فتعلم بأمرنا وينهدم بيتك بسببي، كما آملت أنه إن توقفنا عن اللقاء فستسطيع نسياني وعندها تتخلص من عذاب ضميرك، لا تخدع نفسك، لم تكن ستستطيع حب كلانا في نفس الوقت، كان يجب أن تقدر على التخلص من لعنة حبي أولاً ليرحب قلبك بحبها، كنت أعطيك الفرصة لتستطيع نسياني.
-أستطيع نسيانك؟! تتكلمين و كأنني كنت أحاول فعل ذلك، نسيانك لم يكن شيئاً أسعى له، بل كان أكثر شيئاً أخشاه في حياتي، لعنة حبك التي تريدين أن أتخلص منها هي أكبر نعمة مَنَّ الله علي بها، وإحساس الذنب تجاه زوجتي كاد أن يتحول كره عندما شعرت أنك ترفضين لقائي من أجلها.
-يجب أن تذهب الآن فالوقت مر سريعاً ولم نشعر.
-سأذهب؛ ولكن هذا لن يكون آخر لقاء يجمعنا.
-أنت عنيد جداً .. أعلم أنك ستأتي مجدداً حتى وإن رفضت أنا…الوداع.
-لا ليس وداعاً بل إلى أن نلتقي ..
مر اللقاء دون أن يشعر بأن هناك شخص ثالث يراقب حديثه الصامت معها، فقد كان عم سعيد حارس المدفن يراقب الرجل المسن وهو يقف أمام قبر محبوبته يناجيها بعينيه دون أن ينطق بكلمة، يهز رأسه كأنه يسمع ردها على خواطره التي تملأ كيانه تماماً كما كان يفعل كل مرة، فطوال ستة وثلاثون عاماً مروا على وفاتها كان يرسل وروداً كل أسبوع ويأتي بلا مواعيد، قد يطول غيابه أعواماً ولكنه دائماً ما يأتي، يمضي ساعات أمام القبر ثم يعطي عم سعيد مالاً ويوصيه أن يهتم بها ويرحل، كانت زوجة عم سعيد تفرح كثيراً لرؤية هذا الرجل، فهي تراه رمزاً للوفاء، وكل مرة يرحل فيها تؤكد لزوجها أنه سيعود، مهما طال الزمن سيجيء إليها ثانية.