على مقعد خشبي موضوع في ممر من ممرات إحدى المستشفيات، حيث يتزاحم الموت واليأس والحزن والألم، يتنافسون أيهم سينهش أولاً في جسد المريض، جلس عجوز متهالك، سرق العمر بريق عينيه، وحفر الزمن خطوطه على وجهه، وأحنت المحن ظهره، لا يُسمع منه إلا صوت مبحوح من الألم، جلس في انتظار دوره مثل الآخرين ليدخل حجرة الكشف، التي تبدو له الآن كغرفة مسحورة بها كل سُبل شفائه، وإن لم يكن الشفاء، فتخفيف الألم على الأقل.

بجواره كانت تجلس زوجته عجوز مثله، وإن بدت للناظر أكثر تماسكاً، تمسك يده اليمنى، وتقبض عليها بشدة، وتحيط كتفه بيدها اليسرى، وهي تهمس له ببعض عبارات المواساة في أذنه، بدت خلال هذه اللحظات كأنها أمه لا زوجته، رغم تقاربهما في العمر، وقفتُ متلكئاً أراقبهما عن كثب بعدما أنهيت ما جئت من اجله متسائلاً في نفسي حتماً كانا عاشقان حين كانا في عمر الشباب، وربما تكرر هذا المشهد بأدوار مختلفة.

تذكرت حينها مشهداً أخر، منذ سنوات طويلة خرجت مع والدي لشراء حذاء لي، ما إن استقر بنا المقام في أحد المحلات حتى دخل زوجان إلى المحل، كان الزوج شاباً بسيط المظهر من النوع الذي لا بد أنه يعاني كثيراً للحصول على لقمة العيش، ثيابه ذابلة لكن نظيفة، وحذاؤه مهترئ، لكنه ليس هنا من أجل ذلك الغرض؛ إذ سرعان ما طلب بخجل من البائع عدداً من الأحذية ليعرضها على زوجته التي كانت بدورها لها نفس الهيئة المتواضعة، وإن كان شعور عام من الطمأنينة والامتنان يشيع في محياها الطيب.

بمجرد أن بدأ البائع في عرض بضاعته عليها حتى بدأ يظهر على زوجها بعض الارتباك الذي من المؤكد أنه انعكاس لتفكيره في مدى صلاحية النقود الصغيرة في جيبه لأداء الغرض، لكنها على العكس لم تظهر ارتباكاً حتى لا تزيد الطين بلة، بل أبدت سعادة رقيقة، وهي تفاضل بين هذا الحذاء أو ذاك، حتى اختارت واحداً بسيطاً بدوره ما أن عرف زوجها بسعره حتى زال عنه الإرتباك، وحل محله الشعور بالرضا المصاحب لأنه أنهى لتوه مهمة كانت تشكل عبئاً على كاهليه.

خرج كلاهما ممسكين بيد بعضهما ومعهما غنيمتهما التي اكتسبت بفضلهما قيمة أكبر بكثير من قيمتها الحقيقية، حتى شعرت فجأة بموجة عارمة من الحب تغمر المكان بأكمله، هو الذي آثرها على نفسه، وكان حريصاً على إعطائها الأمان لأن تختار بنفسها ما تريد برغم ارتباكه الواضح لضيق ذات يده، وفرحته الحنونة بما اشتراه لها لأنه أسعدها فقط وليس لأي شيء آخر، وهي التي كانت تدرك في قرارة نفسها الأمر برمته، فلم تظهر إحجاماً عن أي من المعروضات، إلا بحجة أنه لا يعجبها، وليس لثمنه حتى لا تشعره بالعجز أو انعدام الحيلة، وفي نفس الوقت اختارت ما تعرف أنه سيقدر عليه وبسعادة حقيقية كمن حيزت لها الدنيا بحذافيرها.

أنا موقن دائماً أن من تمام خلقك أن يُحفظ شبيه لروحك في جسد أخر، وبالمثل يبقى بداخلك مكنون تلك الروح الأخرى، فتصبح في أنٍ واحد مأوى لفقيد وفاقداً لمأوى ذلك الفقيد، ستظل تبحث بعلمك أو دون علمك، ستظل تبحث دون إرادة ووعي، متعطش دائماً لإيجادها وما إن تجد ضالتك تلك التى فقدت، سوف يتملكك شعور يسرق كل شعور بداخلك، تيارٌ يسري فيك سريعاً فيتمكن منك أسرع من طرفة عينك، ستضرب تلك الروح جذورها في عمقك، فتحولك لإنسان أخر غريبٌ عن نفسك، ستصبح على حالٍ لم تعهد ذاتك عليها يوماً، فلا أنت كما كنت ولا حتى بإمكانك أن تجد تفسيراً منطقياً للحال الذي إليه وصلت.

إن الحب الحقيقي طاقة لا تنفد ولا تنتهي، قادرة على إعادة تشكيل نفسها في صور مختلفة، تتناسب مع كل مرحلة من الحياة يتشاركها الرجل والمرأة، وعندما يعيد الحب تشكيل نفسه؛ قد تجد تلك اليد التي كانت تحمل باقة الورود استعداداً للقاء الحبيب، هي ذات اليد التي تشدك عند الوقوع في ظلمات الحياة، تهدهدك كطفل صغير فى مهد الطفولة، تمسك بك حين تشيخ وتكمل معك الطريق حتى النهاية.. لا أجد كلاماً أختم به أفضل من قول علي الطنطاوي رحمه الله:-

ليس الحبُّ ضـمَّة ولا شمَّـة ولاَ قبْـلة، الحبّ أن يَرى المحْبوبَـة فيحسَّ في نفسهِ جوعاً سماويّاً إليهَا، رغبَة جامِحة في أن يفتحَ قلبهُ ويضُمَّـه عليهَا، الحبُّ أن تفنَـى هيَ فِيه، وأن يفْنَى هوَ فيها، ألاَّ يفَرِّق بَين الحبِـيبين الزَّمان ولاَ المكَـان ولا المُيول ولاَ الأهْـواء، فيكُون أبداً معهَا، هوَاه هَواهَا، ومُيولهُ ميُـولهَا، ويكُون فِي رأسِـه صُداعُها، وفِـي معِـدتِه جوعُها، وفِي قلبِه مسَرّتها وأحزَانُها. وأنْ تكُـون لهُ ويكون لهَا، وأن يدخُلا معاً مصنع القدرَة الإلهِـية مرَّة ثانِيةً ويخرجَا وقَـد صَارا إنساناً واحِداً في جسْمينِ اثنيْن. فأينَ تروِي جُرعَـات اللَّذائذ الحسيّة هذا الظمأَ الرّوحي ؟!