ما قهر الإنسان على وجه الأرض شيءٌ مثلما قهره الموت، الموت هو الحقيقة المطلقة التي مهما حاولنا الهروب منها لن نسلم منها أبداً، فإن تجاوزتنا سهام الموت اليوم فهي غداً لن تخطئنا، سيزورنا هادم اللذات ومفرق الجماعات، سيزورنا مقطع الأوصال ومحطم الآمال، سيزورنا ميتم البنين والبنات عندما يحين القدر، فالموت هو خط للنهاية ستطأه أقدام الجميع باختلاف أعمارهم، سيحملون على الأكتاف بلا همس ليواروا الثرى وليكونوا بعدها غذاءً لدود الأرض. نحن لم نرَ من عاشوا قبلنا بمئات السنين ولن نرى من قد يعيشون بعدنا، جيل يطوي صفحة جيل شيئاً فشيئاً تلك هي سنة الحياة، ولو كان الموت خياراً لما اختارناه، بل هو لزام علينا أن نرى موت من نحبهم من العائلة وصولاً لعابر سبيل مرّ في حياتنا يوماً، لكن دعني أخبرك عن الموت الذي نختاره.
هناك العديد من الأشياء التي نشهدها ترتدي ثوب الموت لكنها ليست هو، تأتينا في كل مرة بلون مغاير ووجه مغاير وصوت مغاير أيضاً، لكنه يتملك نفس الشعور القاهر، الفراق ربما هو أكثر الأشياء التي تشبه الموت، يصيبنا بألم يعتصرنا وكأن أحداً قد حطم صدورنا لينتزع قلوبنا من أماكنها فتصبح صدورنا جوفاء تُسمع أصوات الريح فيها، هو وجع يتخطى حدود الإحتمال والإدراك، فطام قسري قبل الأوان، سور يضع حداً فاصلاً بين قلوب متلهفة وأماني مستحيلة.
لاحظ معي لو أنك جئت بقطعتين من الخشب وزرعت في أحشاء إحداها مسماراً لتحولهما لقطعة واحدة، وحاولت فصلهما بعد ذلك لأي سبب من الأسباب، حتماً ستضطر من دون شك لأن تطرق على الخشبة وتنزعها عن قرينتها، ستسمع بأذنيك صوت الإنفصال، وستخسر بالتالي إحدى الخشبتين أو كلتاهما شيئاً من فتات ما صنعت به، وربما تنقسم كلياً إلى أجزاء متفرقة لا تستطيع تكوينها، فما بالك بالأرواح؟
أما رأيت يوماً عاشقاً يفارق معشوقته وملامحه تنضح بالدموع، يريد أن يقول لها بكل ما أوتي من حب وقوة أن قفي ها هنا لا تذهبي سأموت، صحيح أنه لا يموت فعلياً لكنه يتذوق من طعم الموت شيئاً، هكذا هو ألم الفراق، فنحن نحزن إن فارقنا بيتنا، أشياءنا، أحباءنا، علاقاتنا، نحزن إذا تركنا نهاراً جميلاً أو فاتتنا ليلة سعيدة، نحزن عندما كانت إمتحانات العام تنتهي معلنة الغياب عن الرفاق، نحزن عندما يُسافر ذلك الصديق الذي جاورنا في مراحل الحياة إلى بلد أخر لسنوات ولم نره بعدها إلا قليلاً، نحزن إذا غادرنا لبلد آخر وخلفنا أباءنا وأمهاتنا وبعض أصدقائنا.
حين كنا صغاراً ونسمع سورة الكهف كان يعصِر قلوبنا قول الرجل الصالح لموسى عليه السلام "هذا فراق بيني وبينك" وقلنا ماذا لو أنه صبر؟ لكان هناك المزيد والمزيد، لكن عندما كبرنا عرفنا أن هناك دائما حداً تنتهي عنده الأشياء، علمنا أن الفراق ركن ضروري في دورة الحياة، إنسان يولد وآخر يموت، ليل يذهب ونهار يأتي، حب يشتعل وآخر ينطفئ، فمهما حاولنا أن نقاومه لن نستطيع، فهذه إرادة الله وإرادة الله نافذة، وعلى السهم أن يترك القوس حتى يصيب.
نحن لا نستطيع إيقاف الفراق، لكننا نستطيع أن نخفف من أشكاله، أن نكتم صوت الغصة ونقلل ملح الدمعة، بإمكاننا أن نحافظ على متانة علاقاتنا فلا نهدر جمالها سُدى، ولا نشهر سيف الغياب بوجهها، تمنيت لو أن هناك قانون يقول للمفارقين تعالوا، لا يحق لكم أن تنسجوا خيوط الأمل ثم تقطعوها، لا يحق لكم أن ترسموا فرحة اليوم وتهدموها غداً، فنحن البشر مساكين، ضعيفون لدرجة أنّ لقاءً يحيينا وفراقاً يضنينا، المشهد هنا ليس درامياً، بل هذه هي الحقيقة، هكذا هي الدنيا زوال وارتحال، فمهما طالت فهي قصيرة، ومهما مكثنا فيها فهي زائلة، وعلى عتبة كل حزنٍ يموت جزء من روحنا، حتى يأتي الموت ويقضي على ما تبقى منها.