بسم الله الرحمن الرحيم


ما الذي يتبادر الى ذهننا – كـعـرب – عندما نتحدث عن الدين ؟

أظن أن ما يتبادر الى ذهننا غالبا هو : الصلاة ، و الصيام ، و الزكاة ...

و كذلك : الحجاب و اللحية ...

و لا بد أننا سنفكر في : تحريم الغناء ، و تحريم " الاختلاط " ...

و طبعا  اذا ما كنا متدينين حقا -حسب المفهوم السائد للتدين الحق – سنفكر في :  " الحكم بما أنزل الله " ... ! .

و أظن أننا غالبا لن نفكر في :

الانتهاء عن ( الفحشاء و المنكر ) و هما – حسب فهمي - كل ما تعارف الناس على تقبيحه و بشاعته . و هذا هو هدف الصلاة حسب القرآن الكريم .

و لن نفكر في (التقوى) و هي – حسب فهمي – الضمير الحي ؛ الذي يقض مضجع صاحبه ليحمله على محاسبة نفسه بدقة على تصرفاته ، قبل ان يحاسبه الله . و هذه هي الغاية من الصيام ، حسب القرآن الكريم .

و لن نفكر في ( تطهير النفس ) ؛ هدف الزكاة . !

و طبعا ، لن نفكر في جمال الكون و جلاله ، و سـنـطـمـس القصص العظيمة التي نقلها الينا المؤرخون عن تضحية المرأة ، و نضالها ، الى جانب الرسول عليه الصلاة السلام ، لندلل على صحةِ حكمنا عليها بالامـتـثـال و الخنوع لذكوريتـنا ! - و هي على أي حال ذكوريةٌ مجروحة بحكم سكوتنا على أحوال الذل  التي نحياها - .

و المؤكد ، أننا لن نفكر كثيرا في معنى "  الحكم بما أنزل الله " ، و ما اذا كانت هذه الجملة (كلمةٌ حقٍ أريدَ بها باطل ) ؟ كما قال عليٌ – رضي اللهُ عنه – للخوارج عندما طالبوا بتحكيم القرآن ؟ .

باختصار : ان ما يتبادر الى أذهاننا اذا ما تحدثـنا عن الدين هو : قشور الدين ، لا جوهر الدين ؛ ان جوهرَ الدين هو الأخلاق الحميدة و المعاملة الحسنة ، أنه الحفاظُ على الجسم الاجتماعي موحداً آمناً سالماً ، و لو على حساب المصالح الضيقة ، انه الرحمةُ و الحبُ  و الجمال ...

لكن ، يا ترى ، لماذا نفكر بالدينِ على هذا النحو ؟

أظـنُّ – و الله أعلم – أننا نفعل ذلك لنحافظ – بوعي أو بغـيـر وعي ، بقصد أو بدون قصد -  على أوضاع و ترتيبات  و قيم اجتماعية معينة ، تخدم جهات معينة ، و لنحافظ على اتـزاننا النفسي ، مستخدمين - حتى لا يغضب من يفضلون تحليل كل مصائبنا بـتـشريح عـقـلنا و فكرنا – فكراً دينياً مُحَـددا .

اننا نريد الحفاظ على قيمنا الاجتماعية البالية ، و على أنظمتـنا السياسية الظالمة ، و على سيطرة المجتمع الذكوري ، نريد الحفاظ على الفساد و الظلم و التخلف ، لتبقى موروثاتـنا الاجتماعية و السياسية التي عفى عليها الزمن ، و طردها التاريخ من حلبته ، لكن تاريخنا نحن ، لا يزال يقدمها على أنها الحل و الخلاص ...

 ان الدين – بشكله السماوي – مُـتَـعالٍ على التاريخ ؛ بمعنى : انه لم يُـنَـزَّلْ لمصلحةِ فردٍ أو طبقةٍ ، أو فئةٍ ، أو طائفةٍ ، أو عائلةٍ حاكمة ، على حساب مصالح المجتمع ككل ، لكن الدين تم استخدامه – و لا يزال يُـستـَخدَم - لتبريرِ حكمِ هذه العائلة ، أو لتحقيقِ مصالح تلك الفئة ، أو لتأبيدِ سلطةِ طائفةٍ معينة  ... ولضمان ذلك لا بد من ترسيخ فهم معين للدين ، و استبعاد ، و اقصاء ، مفاهيمَ أخرى للدين ... و النتيجة : أن الدينَ السماوي ، تلوث بأوحالِ المجتمعِ الأرضي ! ! .

كما أن الفرد يريد الحفاظ على توازنه النفسي ، فـيُـرضي ضميرَه بركعاتٍ كل يوم ، و بصيامٍ كل سنة ، و بزكاةٍ ، اذا ما حال الحول ... و بين الصلاةِ و الصلاة ، يغـتابُ و يغش ، و بين الصيامِ و الصيام ، يخاصمُ و يفجر ، و بين الزكاةِ و الزكاة ، يتباهى و يتـفـاخر ... و قبلَ ذلك و بعده ، يغضُ الطرف عن ظلم هذا المدير ، و ذلك الحاكم ، و يلطمُ خدَ زوجته اذا ما تجرأت و رفعت عيناها "الخاطئتين" ، الى وجهه " الكريم" ، و يتغافل اذا ما لطم جنديٌ اسرائيلي على ابواب الأقصى خد عجوز كبيره ! .

ان هذه التناقضات لا تُـفَسَـر بتخلفنا الفكري فقط - على خطورته - و لكنها تُـفَسَرُ بأسباب اجتماعيةٍ و نفسية ، هكذا – مثلا – يمكننا فهم وجود " رجالِ اعمالٍ متدينين" ، يقيمون ولائم فاخرة ، و جيرانهم يتضورون جوعاً ، و يركبون سيارات فارهة ، و أهلهم يفـتـك بهم المرض و لا مُعـيـلَ لهم ، ان هذا – و أمثاله – يعرفون جيدا موقف الدين من البطرِ و التكبرِ و اهمالِ الفقراء ، و لكنهم يريدون تـثبيتَ مكانتهم الاجتماعية ، و اشباعِ غرورهم الشخصي ، و في نفس الوقت ، يريدون ارضاء الله ! فيصلّون بضعة ركعات ، و يوزعون بعض الفتات ، ظانين بذلك أنهم "يشترون" رضوان الله ! . و الحقيقة أن هذه الركعات، و ذلك الفتات ، تشبه الرشوة التي يقدمونها لله ليـغـض الطرف عن سلوكياتهم ! .

تعالى اللهُ عن ذلكَ علواً كبيراً  .

و هكذا – مثال آخر – نستطيع أن نفهم كيف تضع جماعاتٍ  " اسلامية " ، يدها في يد الغرب – الذي تدعوه بـ " الكافر " – لتحقيقَ مصالِحها الضيقة ، فليـقـصـف الناتو – بمباركة علماء الدين - ليبيا ، و لتبقى أميركا – بمباركة الـمُـفْـتِـين – في الخليج "العربي" ، و ليحيا النظام الاقتصادي الرأسمالي ، الحر ، اذا ما بقي الاسلاميون – عائلات أو جماعات - في الحكم ... !

تبا لهذهِ المعادلةِ الـنَّـفـعـيـةِ النَـتِـنة ، ان الدينَ ثورةٌ على الظلم و الطغيان ، انه قيمٌ ساميةٌ عابرةٌ للأزمان ، انه للجميع ؛ فالله – جل ، و تعالى ، و تـنزه – ليس لي أو لك ، أو لهذه الفئة أو تلك ، انه ليس أداة في يدٍ الانتهازيـيـن النفعـيـيـن ، انه حيث يكون الحبُ و الرحمةُ و السلام ، انه حيث الجلالُ و الجمالُ و البَهاء ، انه حيث العدلُ و القسطُ و المساواة ؛ هكذا ، يمكن للدين أن يكون أداةً تحرريةً للإنسانِ أينما كان ، هكذا يكون الدين أداةً للنضالِ ضدَ الترتيباتِ البشرية المنحازة ، هكذا يصطف المسلم و المسيحي ، و اللاديني حتى ، معاً ، الى جانب المستضعـف ، و ضد المستبد . 

ان استخدام التحليل الاجتماعي التاريخي النفسي ، للأفكار الدينية ، يكشف لنا عن مكامنِ الخللِ في المجتمعِ و الفكرِ على حدٍّ سواء ؛ فهذه التحليلات تُـفَسِّـرُ لنا هذه الفتوى ، أو تلك العقيدة ، فتبين لنا أنها لخدمةِ جهة ما ، فندرك أن هذه الجهة لا تعمل للصالحِ العام ، و ندرك أيضا ، أن هذه الفتوى ، أو تلك العقيدة ، ليست بالضرورةِ من الدين ، و هذا يفتح المجال لمحاربة هذه الجهةِ الانتهازيةِ الظالمة ، و محاربة التخلفِ الفكريِ في الوقتِ نفسه ، كما أنه يفتح المجال لتحرير النصِ الدينيِ مما ليس منه ، تحرير السماوي من الارضي ، و استخدام النص الديني – و هذا هو الاستخدام الوحيد المشروع للدين – لمصلحة الانسان ، و هكذا يكون العمل الانساني الديني (في سبيلِ الله) فعلا ؛ فسبيلُ الله ، هو نفسه ، سبيلُ خدمةِ الانسان ، أياً كان . و أيُّ عملٍ آخر ، و لو بُـرِّر دينيا ، يتسبب في ظلمِ الانسانِ و قهرهِ و استغلالِه ، هو في سبيلِ الشيطان  .

أما تفسير كل مصائبنا تفسيراً فكرياً ثقافياً معرفيا فقط ، فهو تفسيرٌ – برأيي - ضالٌ و مُـضـلِّـل ، فهو يعمينا عن الحواضن الاجتماعية للتخلف و الاستبداد و العنف ، و عن الدوافع النفسية لهذه المصائب ، ان هذا التحليل يُـبَـرِّئ الحكام من ظلمهم ، و الجماعاتِ من انتهازيتها ، و يسجننا في العـقـول و النصوص ، و كأن النصوصَ و العقولَ ، مفصولةٌ عن واقعها ، و عن  تاريخِـيَّـتِها . و ربما كان أكبر دليل على ما أقول ، هو انشاء المراكز البحثية ، و اقامة المؤتمرات الفكرية ، برعاية الدول نفسها التي روجت طوال عقود لأفكارِ التكفيرِ و التَّـقْـتِـيل ، و لا زالت ! . الجميع يساءلون الفكرة ، و يستجوبون النص ، و لا يستجوبون الجناة ! . و لكن الوقت قد حان لاستجواب الجناة أيضا ، و توجيه أصابع الاتهام الى المسؤولين عن الجرائم المرتكبة بحق أي انسان ، جـُـلِـد و سـُـلِخ و قـُـتِـل ، باسم الله .