ماقولك فى إنسان كان كل كتاب له إعلان َ حرب أو إيذانا ً بمعركة ؟ .. ماظنك فى إنسان كانت الأيام تضيف إليه الأعداء بغير حساب وتحاربه كأن لها عنده ثأرا ً قديما ً ؟ .. إلى إيطاليا إلى هذا البلد الجميل ، فى رحاب إماما ً من أئمة الفكر الحر ، وشهيدا ً من شهداء الإستبداد .
إلى قرية " سكالا " فى أحضان " جبال الألب " لنرفع التحية إلى هذا الفيلسوف ، عساه يقبلها ويرضى عنها ، عساه يحدثنا حديثا ً ينفعنا ..
يعرف الناس عن الفلاسفة أنهم جماعة التأمل والهدوء وأنهم أكثر الناس هدوءا ًوصمتا ً ، ويعلمون أن المرء إذا كثر حديثه وازداد اضطرابه فى مناكب الأرض فمن الظلم أن يُعد فى الفلاسفة وأصحاب الآراء.
لكن " جيوردانو برونو " لم يكن من هذا الطراز لم يكن ممن يعجبون بفلسفة الصمت ، والتأمل وخداع الناس بالحركة المُقدرة ، والكلام الرزين الذى يخرج من الشفتين وكأنه يخرج من صدع جبل ! إنما كان عَلما ً على الثورة والإضطراب ..
شرع فى طريق المجادلة والكتابة ؛ حتى ولعت حياته بخصومة الأعداء التى سرعان ما تحولت إلى صراع عنيف ، أَحسب أن حديثه سيحمل إلى أصحابنا الذين لايفهمون من مظاهر العلماء غير صمت المُدعى وجدال المُجادل الذى يتكلم ليقال أنه مُتكلم !! لونا ً جديدا ً من أصحاب الأفكار ، وقادة الرأى لم يكن يطوف بخيالهم.
فالصمت وحده لايعني العالم وأن الذهول أو التذاهل لايعني الفلسفة ، بل أن تكون أنت ورأيك شيئا ً واحدا ً ، تعيشان معا ً أو تذهبان معا ً..
** الصراع المُحتدم **
كان عصر النهضة الأوروبية أوج الصراع المُحتدم ، صراع بين عالم قديم وعالم جديد ، لم تكن القوى متكافئة ولا متقاربة .
أنصار القديم كانوا أقوياء تؤيدهم الكنيسة ، ويؤيدهم جمود الناس الشائع ، أنصار الجديد قلة من ذوى الجرأة ، وأصحاب الإيمان فى الإنسانية .
لم يكن من الميسور أن يكون الصراع هادئا ً أو منظما ً ، أصحاب الجديد متحمسون لايطيقون الصبر على جمود الآخرين ، أنصار القديم لايطيقون أيضا ً السكوت على ما يقال ؛ خوفا ً من انتشاره وإيمان الناس به ، فقد غاب عنهم "" أن كلمة الحق لاتفنى وإن فني صاحبها "" وأن هذه الآراء لاتموت بموت أصحابها ، فالدنيا لاتعرف الجمود ولابد لمن يعيش فيها أن يسير معها .
كان " جيوردانو برونو " فى طليعة ركب الحرية الناهض وكانت الإنسانية قد قضت قبل ميلاده وميلاد عصره قرونا ً عشرة توقف خلالها سيرهُا إلى الأمام ، وسيطرت الكنيسة على مصائر البشرية فى غير الوجهة التي تنبغى لها ، ثم أخذت تستفيق رويدا ً من القرن العاشر ، فى هذه الفترة أقبل " جيوردانو برونو " على الدنيا فى فجر النهضة الأوروبية ، أقبل فى تلك الفترة الزاخرة التى عَمر فيها التاريخ البشري بالعلماء والفلاسفة ، فوجد السابقين يتوارثون آراء أدركها البلي ، ولم تعد مما يرضي العقل الحر أو الفكر السليم .
نظر برونو إلى المُتفلسفة من معاصريه فإذا هم يسلمون بما يسلم به " أرسطو " ولايتعرضون لما لا يجوز التعرض له ؛ فثارت نفسه ، وأخذ ينهج فى البحث والتفكير .
لاغرابة أن يكون " برونو " أشد الناس سخطا ً على " أرسطو " ، ولكنه لم يسخط عليه كفيلسوف ومُفكر ، بل لأنه كان ينكر على الناس هذه المذلة التي عطلت الأذهان وحددت للفكر سبلا ً محدودة لايجوز أن يعدوها ..
** ضريبة الرأي **
اختلطت هذه الآراء فى ذهن " برونو " فصدر كتابا ً فى تفسيرها ومناقشتها ، ولو أن رجلا ً آخر كان فى مكانه لخاف وتريث وحسب للأمر حسابه ، ولكن برونو لم يكن ليعرف المراعاة ولا الحساب ، فمضي فى طريقه حتى ضاق الناس به فى وطنه " إيطاليا " " أنصار الفكر القديم " ، وأخذوا يطاردونه فخرج مستخفيا حتى أشرف على " جنيف "...
وجد " برونو " فى باريس وجامعتها أمرا ً عجيبا ً وجد الإيمان بأرسطو فرضا ً واجبا ً على كل عالم وطالب ، ووجد أن كل من تحدثه نفسه بمخالفة " المُعلم الأول " أرسطو يدفع خمسة فرنكات عقابا ً له على مارتكب من ذلل جسيم !!!
ولكن برونو لايرضي لعقله هذا الهوان ولايقسر فكره على صمت المُجبر المُضطر وليته وقف عند هذا الحد ، ليته هاجم أرسطو وحده ، ولكن الأيام لم تلبث وهاجم فلسفات رجال الدين ، كم تقاسي العقول من الهوان فى تصديقها والإيمان بها !!
ثم تطرق إلى فلسفة جديدة ، وأخرج للناس عام 1585 كتابا ً يزعم فيه أن الله والعالم شئ واحد ، لم يفهم معاصروه هذه الأقوال ولم يطيقوا سماعها ، وأنكروها إنكارا ً بالغا ً فبدوا يعلنون عليه الحرب الحامية التي انتهت به إلى الإستشهاد ...
طردوه الناس من باريس ، وكان يجمدون حين يقرأون فلسفة هذا الرجل ويرون تطرفه ، كانت جرأته تفزعهم وتذهب بهم مذاهب بعيدة من الخوف ، لأنهم كانوا يتحاشون إغضاب الأمراء الذين يعيشون فى حمايتهم ، فرحل إلى " براج " وأقام فيها زمنا ًو أقبل عليه الطلاب ، ولكن أعدائه لم يغفلوا أمره بل تبعوه إلى حيث أقام .
ألقوا به فى السجن وفاوضوه : إما التسليم بآرائهم والإيمان بها وإنكار آرائه كلها وإما الموت ...
ولكن " برونو " أبي التسليم وأقسم ألا يتزحزح عن آرائه , وأعلن أنصار الفكر القديم أنه لابد من عقابه وقرروا إعدامه حرقا ً وأعطوه فرصة أخيرة لينقذ نفسه من النيران ، ولكنه لم يتحرك وظل صامتا ً ، وأُشعلت النيران وألقى فيها " برونو " كان ذلك فى 17 فبراير عام 1600.....