إذا ما تتبعنا في مراحل تطور الامبريالية الى شكلها الحديث الذي نراه اليوم، كانت عليها بالضرورة أن تخوض المرحلة الاستعمارية، وبالاستعمار هنا فنعني استعمار كلّي يبدأ من الوجود العسكري الى الهيمنة السياسية، وبامتلاك القرار السياسي للمستعمرات، يسهل على المُستعمر إعادة تشكيل المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية للدول التابعة لتلبية حاجيات مواطني الإمبراطوريات (المراكز المتروبولية). ولكن، ومع نشوء الثورة الصناعية في منتصف القرن الثامن عشر، حدث تغيير في استراتيجية الدول المُستعمَرة وكيفية تعاطيها مع الدول التابعة خصوصاً في العلائق الاقتصادية. في حالة الاستعمار الكلاسيكي (ما قبل الثورة الصناعية) كانت الامبراطوريات تفرض على مستعمراتها حركة إنتاجية معينة من المواد الضرورية: كالتوابل والسكر والرقيق لتلبية حاجيات المستوطن الأبيض.

 أما بالنسبة للعلائق الاقتصادية في الحالة الإمبريالية ما بعد الثورة الصناعية، أصبحت الدول المصنعة تحتاج الى أسواق لتصريف الحجم المتزايد والمتراكم من بضاعتها، كما حدث مع الإمبراطورية البريطانية وتحويلها المستعمرات الى أسواق، مع الحفاظ على شكلها القديم من التبعية الاقتصادية لتزويد الدول المصنعة بالمواد التي تضمن ديمومة الإنتاج الصناعي للدول الرأسمالية: مثل المواد الخام كالقطن والصوف والحرير والأصبغة بأنواعها, وإدخال قانون الملكية الخاصة الذي يتيح للمستوطنين البيض استخدام القانون لخلق مصدر عمالة للزراعة التجارية والمناجم وبالتالي خلق نمط العمل مقابل الأجر, الشيء الذي أدى الى زيادة في الإنتاج الغذائي لتلبية حاجيات المناطق الصناعية المتضخمة.

كانت نهاية مشروع محمد علي واستسلامه عام 1840, البداية الأولى للتدخل الإنكليزي المباشر وجر البلدان العربية الى السوق الرأسمالية العالمية. فمع سيطرة وتوسع الرأسمال الاحتكاري، وتغلغل الرأسمال الأجنبي في الدول العربية، التي بدورها تحولت الى مناطق مستعمرة تابعة اقتصادية لدول المركز المتروبولي. كانت المعاهدة التجارية المعقودة بين تركيا وانجلترا في العام 1837 الطريقة الأسهل لدخول البضائع البريطانية وبضائع الدول الرأسمالية الأخرى الى مصر وسوريا وبقية الأقطار العربية، وتحويلهم الى أسواق مستهلكة يتم تصريف الفائض من المنتوج الصناعي لهذه الدول. ولعل انهيار المراكز الصناعية القديمة وتخريب الحرف والصناعات المنزلية هو أحد أهم نتائج الاتفاقية التركية البريطانية، كما وأعاقت الاتفاقية تطور المعامل اليدوية الوطنية والإنتاج الصناعي، الذي لم يستطع المنافسة مع الإنتاج الصناعي الأوروبي.

ومع انتهاء الاستعمار المباشر فذلك لا يعني نهاية الإمبريالية، فالاستعمار الذي كان يمتلك القوة السياسية، أحدث تغيير في شكل المؤسسات الاجتماعية والثقافية للدول التابعة باستخدام الهندسة الاجتماعية. فعلى سبيل المثال، تطور التجارة الخارجية في المستعمرات أدى الى تمكين البرجوازية الكومبرادورية التي ساهمت في شق قناة السويس وبناء مرفأ الإسكندرية وانشاء طريق بيروت – دمشق. ومتى تمت إعادة تشكيل المدن التجارية وفقا للهندسة الاجتماعية التي تخدم الطرفين، تصبح علاقة الاستغلال والسيطرة مستمرة ووثيقة بين الدول الصناعية ومستعمراتها، ووفقا لهذه الظروف يمكن أن تُمنح المستعمرات الاستقلال السياسي بشرط عدم تغيير شكل المؤسسة الاجتماعية أو التعرض بشكل مباشر للمصالح الامبريالية التي أدت بالأساس الى منح المستعمرة استقلالها.

بالعودة الى وقتنا الحالي، وفي ظل حرب الإبادة المستمرة التي تخوضها القوى الامبريالية على الشعب الفلسطيني بالمجمل، وعلى غزة بالتحديد، نرى ردة الفعل الرسمي العربي كتفاعل منطقي مع الدور الوظيفي الذي وجدت لتلبيته لصالح دول المتروبول، فلم تكتفي هذه الدول بالمشاركة المباشرة اللاأخلاقية بالحصار والتجويع, كإغلاق معبر رفح أمام المساعدات الغذائية والطبية وغيرها, ولا باستمرار تزويد الكيان الصهيوني بالغذاء, وكل ما يلزمه عن طريق خلق جسر بري بديل عن خط السفن في البحر الأحمر, الذي تُسطّر فيه المقاومة اليمنية أروع عناوين الشرف والتحدي, بل أيضاً شنّت هذه الدول التابعة أعنف حملات اعتقال منذ سنوات, وفرضت قوانين رجعية للسيطرة على حالة الاحتقان الشعبية المتعطشة للمشاركة ووضع بصمتها في الطوفان. احدى هذه القوانين تمثّلت بفرض الاعتقال الإداري على المشاركين في المظاهرات المساندة والداعمة للمقاومة وصمود الشعب الفلسطيني في غزة، فرغم عرض الشبّان على القضاء الذي كان قراره "عدم مسؤولية" أصر النظام بممارسات بوليسية استمرار اعتقال الشبّان "ادريا" رغم عدم وجود أي تُهم بحقهم، منهم من لايزال معتقلاً منذ أكثر من ثلاثون يوماً، ومنهم من لم يخرج الا بتقديم كفالات غير قانونية!

لا يمكن بأي حال من الاحوال تفسير هذه الممارسات الرجعية، الا بربطها بشكل مباشر مع حدث الطوفان وارتداداته العديدة، التي كانت أهمها التهديد المباشر للإمبريالية ومصالحها بالمنطقة عن طريق كسر الصورة الزائفة التي أرادت القوى الامبريالية الغربية تثبيتها في ذهنية العالم، وتعزيز من ثقافة الهزيمة في المحيط العربي وأنظمته التي فقدت شرعيتها الوطنية والقومية وحتى الأخلاقية. ويستدعي الإشارة هنا الى أن تجربة عبور المقاومة الفلسطينية في 7 تشرين الأول كانت متعالية على الحدود الجغرافية التي صنعها الاحتلال، ولكنها عبور في الذات الصهيونية وفي ذهنية البنية الاستعمارية، الأمر الذي حتّم على القوى الامبريالية الرد بصورة خالية من الإنسانية، هدفها ترميم الصورة الهشة التي صنعتها المقاومة الفلسطينية.

تُشكل غزة مشكلة رئيسية لدى النظام الرأسمالي العالمي للإمبريالية الجديدة، فالنظام الحالي يعتمد على مجموعة من العلاقات المعقدة والمترابطة بين الدول ذات المستوى التنافسي في التنمية الصناعية من جهة، وربط ما يسمى "دول العالم الثالث" كملحقات للمراكز الصناعية والمالية في العواصم الكبرى من جهة أخرى. وترتكز هذه العلاقة في ديمومتها على الاضطهاد والاستغلال المستمر لشعوب العالم المُستعمَر، وباختلال هذه المعادلة "كما حدث في طوفان الأقصى" فإنه يعني وضع الشروط الأولى لنهاية الامبريالية.

ان بداية تبلور الشروط التاريخية لنهاية الإمبريالية لا يعني بالضرورة حتمية نهايتها في المستوى القريب على أقل تقدير، ولكن لنذكر هنا شرطان أساسيان من الشروط الرئيسية التي تحول دون انهيارها:

أولاً، العمل على ترك أكبر قدر ممكن من مساحة الكرة الأرضية لصالح الحركة التجارية الحرة، ولعل المثال الأقرب هو مضيق باب المندب الذي يربط الشرق والغرب. ذلك ان الهيمنة الغربية على ممرات التجارة العالمية هو بلا شك أحد أهم العوامل التي تساهم في بقائها، بالنظر الى بنية الاقتصاد، نرى أن المراكز المتروبولية تعمل بطريقة تؤكد أن التوسع هو الاستراتيجية التي تشكل الضمان للهيمنة السياسية وبالتالي الاقتصادية والاجتماعية.

ثانياً، تصعيد الثورات المضادة في المجتمعات الاشتراكية عن طريق تفعيل الحروب المستمرة والضغوط الاقتصادية أو تشويه صورة القادة والشعوب في البلدان الاشتراكية، والعمل على اختراق التركيبة المجتمعية في المستعمرات وبالتالي التنبؤ بالثورات الشعبية وانهائها قبل ان تكتمل.

وبالنظر الى الحدث التاريخي الذي صنعته المقاومة في غزة، فيمكن التأكيد على أن المنظومة الغربية خسرت الشرطان المذكوران، عن طريق فشل المنظومة الاستخباراتية لدولة الكيان بالتنبؤ بالحدث التاريخي في 7 تشرين الأول. وخسارة الهيمنة على أهم طُرق التجارة العالمية في البحر الأحمر, رغم المحاولات لعزل الحدث الجاري في البحر الأحمر عن حدث الإبادة الجماعية في غزة, وذلك بتسخير القوى الإعلامية في دولة الكيان وفي كامل دول المنظومة الغربية, وتحويل المؤسسات الاجتماعية الى منابر هدفها التضليل وشيطنة المقاومة في اليمن باعتبارها تهديد لحركة التجارة العالمية, ولعل انشاء التحالف الأميركي الغربي الذي اُطلق عليه اسم "حامي الازدهار" هو التعبير المثالي لحالة التضليل لقلب الرأي العام العالمي, الذي بدأ بالتمرد على ممارسات التغييب التي اُستخدمت ضده خلال عشرات العقود الماضية.