ان النموذج الذي مثلته السلطة الفلسطينية منذ تأسيسها مع إعلان اتفاقية أوسلو الى حد اللحظة, يمكن أن يتم تلخيصه في بعض المفاصل التي شكلت نقاط تحول في الوعي الجمعي من عمر النضال الفلسطيني المعاصر.

 لنأخذ نموذج الشهيد نزار بنات على سبيل المثال, تلك الظاهرة الثورية المثقفة والمناهضة لفكرة المساومة بكل أشكالها, كان نزار بعمقه الثوري يعي أن المساومة ماهي الا إطالة لعمر الإحتلال عن طريق خُدع تمثّلت بالمحطات الانتقالية التي لم يتم انشائها عبر التطور التاريخي لحركات التحرر, ولكنها جزء من أدوات الهيمنة الامبريالية والتي بدورها كانت إحدى أهم أدوات الاحتلال الاسرائيلي على وجه الخصوص, وتم تكريسها لاحقاً بإفراز مكون اجتماعي غريب على الثورة الفلسطينية تمثل بالسلطة "الوطنية". 

شكّل وجود نزار بنات على الساحة السياسية الفلسطينية معضلة حقيقية للنخب وأصحاب القرار في السلطة, حيث أن نموذج نزار أثبت للعامة فشل هذا المكون السياسي والغير ناضج للتعامل مع مثل هكذا ظواهر معادية للنهج المساوم, فكان نموذج نزار مجرد فشل سياسي جديد يُضاف على أجندة الفشل الاقتصادي والاجتماعي المُركّب لدى السلطة.

بعد تصاعد أشكال الفشل, ومبادرة الشهيد نزار لتشكيل حالة من الاستقطاب والحشد الشعبي الثقافي, المشروع الذي بدأ مع غسان كنفاني وناجي العلي ثم الأعرج وبنات, فما كان للسلطة على عادة نمط عقليتها التاريخية الا أن تحافظ على نهج المساومة كونها المسار الأكثر أمناً لبقائها على قيد الحياة في دائرة المصالح حتى ولو كان هذا النهج يتطلب القتل, ولا تهم السهولة والصعوبة في القتل فهي بالنهاية ليست مسألة اخلاقية على عاتقها, ولكنها مسألة ضرورة وفق خطة نهج الغاية تبرر الوسيلة.

وعلى ذكر الغاية والوسيلة, أستذكر هنا حادثة سفينة باتريا الفرنسية, السيفنة التي كانت محمّلة بالمهاجرين اليهود القادمين من أوروبا الى ميناء حيفا الفلسطيني عام 1940. كان عدد المهاجرون اليهود غير القانونيون على متن السفينة يقارب ال 1800 يهودي, ولكن الاحتلال البريطاني رفض ان يستقبلهم بالكامل خوفاً من اندلاع الثورة الفلسطينية مجدداً, بعد أن تم اخمادها باغتيال قادتها وبمساعدة النهج العمالي الرجعي التاريخي للأنظمة العربية النامية في حضن الاستعمار في ذلك الوقت, فما كان من تحالف عصابات الحركة الصهيونية وبمبادرة عصابة شتيرن, الا أن تفجر جزءً من السفينة لإجبار الانتداب البريطاني على استقبال المهاجرين بالكامل ورفع أعداد المهاجرين المتفق عليهم سنوياً, قُتل في هذه الحادثة قرابة ال 240 يهودي, ولكن في المشروع الصهيوني الغاية دائماً تبرر الوسيلة!

ان هذه المقاربة ليست من باب المبالغة, جيث أن هنالك تقاطعات تاريخية في مسار الحركة الصهيونية مع النهج السلطوي في طريقة التعاطي مع المعضلات الاجتماعية السياسية, لكي لا نتشعب كثيراً في هذه التقاطعات, لنروي حادثة سقوط جثمان الشهيدة شيرين أبو عاقلة عند تشييعها أمام المستشفى الفرنسي بالقدس المحتلة, لم يكتفي الاحتلال بمقع الجنازة ولا حتى باسقاط جثمان الشهيدة واختراق الحالة المقدسة لفكرة الجنازة, ولكنه قام أيضاً باعتقال الشاب الفلسطيني عمر أبو خضير الذي كان يحمل التابوت وسط اللكمات والضربات من قِبل جنود الاحتلال, مما استفزهم حالة الصمود للشاب المقدسي وتحديه لأسلوب العنف الاستعماري, هذه الحالة تكررت اليوم ولكن بمشاركة الوكيل الاستعماري هذه المرة.

فبعد أن نفّذت قوات الاحتلال عملية اغتيال جبانة استهدفت فيها بطائرة مسيرة مركبتين في جنين كانت تقل الشبان أحمد بركات "أبو الهاني" ومحمود رحّال ومحمد الفايد, والتي أدت لارتقاء الشبان الثلاثة واصابة شاب اخر بجروح خطيرة قبل أذان المغرب في رمضان بدقائق قليلة, في عملية تقليدية للاحتلال اتسمت بالجبن والانعدام في البنية الاخلاقية, التي لا ترى الوجود الفلسطيني كوجود طبيعي في هذا العالم. ولكن الكارثة الأكبر كانت بعد ذلك بساعات قليلة, عندما قادت الحاضنة الشعبية للمقاومة في جنين ومخيمها جنازة تشييع الشهداء الثلاثة واضافة الطابع الاحتجاجي عليها أمام مبنى المقاطعة في جنين مطالبة السلطة الفلسطينية بالافراج عن أصدقاء وأقارب الشهداء, ومنهم المعتقل لدى الأجهزة الأمنية عبود الناطور لكي يودعوهم قبل ان تتم عملية الدفن, ولكن الاستجابة من قوات الأمن في المقاطعة كانت باطلاق النار على الشبّان الأمر الذي أدى لسقوط جثمان أحد الشهداء في إعادة لحالة الشهيدة شيرين أبو عاقلة, في تجلي ملموس لفكرة المساومة واستكمال المشروع الصهيوني بأدوات "وطنية" أخذت البعد الأهلي, ما يرسّخ الشرخ العميق بين مختلف الشرائح الشعبية وبين النُخب التي تتقاطع مصالحها بشكل جوهري مع المحتل. ولكنها مجدداً, الغاية التي تبرر الوسيلة!

البعد الأهلي لن يبقى "كما كان سابقاً" حملاً على عاتق المقاومة التي تأخذ بُعد بنيوي وحاضنتها الشعبية لفترة طويلة, فالشروط التاريخية للثورة الشعبية بدأت تتشكل وتتصاعد أكثر من أي وقت مضى, وواحد من هذه الشروط هو الاحتقان والشعور بالغربة عن المشروع السياسي المساوم مع المحتل, والذي عاد بنتائج كارثية على المستوى الاقتصادي بالتحديد على أغلب طبقات المجتمع الفلسطيني, مما يؤشر على تسريع عملية المواجهة المرتقبة.