عند قراءة تاريخ المجتمعات البشرية، خصوصاً تلك المُجتمعات التي كانت خاضعة للاستعمار، فالشعب الفلسطيني هو أكثر من عانى من الندم. لو فُتحت نافذة زمنية على الانسان الفلسطيني الذي شَهِد تأسيس أول مُستعمرة يهودية على أرض فلسطين، وهي مستعمرة بتاح تكفا في العام 1882, أو كما تُعرف بالمجتمع الاستيطاني الإسرائيلي "دُرة المستوطنات اليهودية", لقاومها حتى أخر قطرة دم صهيوني على أخر شبر في فلسطين. أو مع تأسيس مستعمرة ريشيون عتصيون في العام 1885, تلك المستعمرة التي شَهدت تعليق أول علم للحركة الصهيونية في فلسطين، وهو نفس العلم الرسمي لدولة الكيان اليوم. بالحديث عن الأعلام، هل يدري أحدكم أن الخطين باللون الأزرق في علم الكيان يرمزان الى نهري الفرات والنيل؟ وتلك هي الحدود التي تعترف فيها الحركة الصهيونية كأخر حدود رسمية لدولة الكيان. على إثر ذلك، لا يحتاج العربي الى نافذة زمنية لكي يمنع فيها تسرب الندم الى قلبه، بل يحتاج لأن يقاوم، باعتبار أن الحدود المكانية لإسرائيل الكبرى هي على حساب الوجود العربي، على حساب قوميته وحريته سوياً.

بالعودة الى الانسان الفلسطيني، فلقد توالت المراحل المفصلية في الطريق الى اكتمال نكبته الكبرى، وانا هنا أستخدم كلمة الكبرى مع النكبة، لأن النكبة الفلسطينية كانت مستمرة منذ اعلان نابليون لخطابه الموجه الى اليهود في أوروبا بعد أن تم سحله وجنوده على أسوار عكا. أما في تتابع المراحل المفصلية، فكانت أبرزهم تتمحور حول إعلان بلفور ومخطط سايكس وبيكو، ثم توجه اليهود الى حائط البراق مطالبين بإعادة بناء الهيكل فوق ركام قبّة الصخرة، الأمر الذي أدى لإشعال ثورة البراق في العام 1929. وما بين هذه الصراعات وقيام دولة الكيان، لعل الندم الأكبر في ذهن الفلسطيني هو عدم ادراكه لعدوه وهو الوجود الصهيوني في البلاد، على عكس ما كان سائد في تلك الفترة، وهو الاعتقاد بأن العدو الأول يتمثّل بالانتداب البريطاني وليست الحركة الصهيونية.

ثم جاء الطوفان..

هل تذكرون تحدي السنوار؟ عندما خرج يحيى السنوار في السادس والعشرون من أيار من العام 2021, مع انتهاء مؤتمره الصحفي بعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، متحدياً الإدارة الصهيونية ووزير الدفاع الإسرائيلي السابق بيني غانتس، الذي هدده والقيادة الإسلامية حماس بالاغتيال. حسناً، المسألة هنا ليست عدم مقدرة أو مقدرة الكيان الصهيوني أن يُنفّذ تهديده ويقوم باغتيال السنوار، ولكنها مسألة اغتنام الفرص، الفرصة ذاتها التي كانت بحوزة العدو عندما كان السنوار قابعاً في معتقلاته. وفي الطرف الأخر، القائد العام لكتائب الشهيد عزالدين القسام المناضل محمد الضيف، الذي تم اعتقاله من قبل الاحتلال الإسرائيلي في العام 1989, وتلك كانت أول ضربة قاسية لحركة المقاومة حماس بالتوازي مع اعتقال الشهيد الشيخ أحمد ياسين من نفس العام.

تلك اللحظات من عمر الكيان أدت لأن يعيش شعور الندم الذي يعيشه الفلسطيني الى يومنا هذا، ليس بسبب الطوفان كعملية عسكرية بطولية متكاملة في الجوانب الاستراتيجية والميدانية، ولكن أيضاً بسبب الطريق الذي رسمه طوفان الأقصى للتحرير. فعبور المقاومة الفلسطينية في 7 تشرين الأول من العام 2021 لم يكن مجرد عبوراً جغرافياً، ولكنه كان عبوراً في الذات الصهيونية، بمعنى أن العبور أظهر للعالم تفسّخ الدولة الصهيونية في بنيتها، وكان ذلك واضحاً عندما عاش الكيان قلق الوجود وارتياب لا مثيل له أدى لأن يضطر الى قتل مستوطنيه وإطلاق النار حرفياً على كل شيء يتحرك في نهار 7 تشرين الأول، بعد أن فشل باحتواء الموقف وبدأ يعيش تداعيات السقوط.

وهكذا، حطّمت عملية طوفان الأقصى وهم الجدار الحديدي الذي روج له الكيان الى جبهته الداخلية، وأعاد الى الطاولة إشكالية المستوطنين والغلاف، فمع كسر مفهوم الأمن عند المجتمع الصهيوني، بدأت دولة الكيان تواجه تداعيات هذا الأمر مع مستوطنين غلاف غزة وكذلك الأمر في مستوطنات الشمال، التي لم تعد تثق بأن لا يتكرر مشهد العبور مرة أخرى عبر رجال حزب الله في الجنوب اللبناني المقاوم. ولكي تتدارك دولة الكيان تداعيات الانهيار في بنيته الأمنية، توجب عليه الخوض في جولة تدميرية تحمل في جوانبها أكبر حدث إبادة موثقة في التاريخ الحديث ضد المجتمع الفلسطيني، ملحوق بغطاء عسكري وسياسي من التحالف الغربي، التحالف الذي اضطر من جديد الى العودة لسيرته الأولى للإسناد الميداني للكيان بعد أن جرّدته المقاومة سبله الدفاعية وجعلته يعيش تداعيات السقوط.