ع

مدمن على القراءة مهتم بالتاريخ و الفكر عاشق للروايه و السير مشغول بسؤال النهضة محب لتراثنا و مؤمن بضرورة الانفتاح على الافق الانساني الارحب

مدة القراءة: 7 دقائق

ان تكون انساناً ...

بسم الله الرحمن الرحيم

كنت أُسأَلُ دائماً : ما الذي تستفيده من القراءة ؟ و كان هذا السؤالُ يستفزني ، و يغضبني ، و يثير دهشتي في الوقت ذاته ؛ فأنا قاريءٌ منذ أن تعلمت " فكَ الخطِ " تقريبا ، و لم أكن ، طوال سنواتِ القراءة الطِوال ، بحاجةٍ الى تبريرِ فِعْلِ القراءة ، فهي فيَّ - كشكلي و صوتي ...  - أمرٌ قدريٌ لا راد له .

كنت لهذا ، اغضب ، و اندهش ، اذا طـُـرِح هذا السؤال علي ، و لكني - بالرغم من ادماني القراءة ، وربما بسبب هذا الادمان ايضا - لم أكن استطيع الاجابة بوضوحٍ ، و حزمٍ ،  على هذا السـؤال ! كنت اقدم اجابات عامة تقليدية ، اجاباتٍ مدرسيةِ الطابع ؛ كنت أقول - وانا منفعل - :

ان اولَ ما نزل من القرآنِ الكريمِ بدأ ب " اقرأ " ،

ان العلمَ نورٌ ،

بالقراءة نأخذ العبرَ من الذين سبقونا، و نلحقُ بالذين تفوقوا علينا  ...

الى آخر هذه الاجابات ، التي - و ان عدَّدَت بعضَ فوائدِ القراءة - الا انها لا تفسر فِعْلَ القراءة ، و لا تكشف عن دوافعها .

و مع توالي السنوات ، و تنوع التجارب ، و تعدد النقاشات ، و تتابع الأزمات  ... أصبحتُ  ابحثُ عن اجابات لأسئلة وجودية الطابع :

لماذا ، و كيف حدث هذا و ذاك ، و ما هو المخرجُ من تلك المشكلة ، و هذه المعضلة ... هذا البحث عن الاجابات قادني الى قراءاتٍ متنوعة ، و الاهم ، ان هذا البحث - و ما سبقه و رافقه من نقاشات -  قادني الى طريقة قراءة و تفكير مختلفتين ، و بعد ان كانت القراءة متعة - اذ كنت اقرأ ما يروقني ، اقرأ باستمتاع دون توتر و قلق الباحث، ابتعد عما يتعبني و يؤرقني ... -  تحولت القراءةُ الى عملٍ مضن ؛ اصبحت تشكيكاً بالمسلمات ، و رفضاً للبدهيات ، و محاسبةٍ للاحياء و الاموات ، اصبحت همَّاً و عِبئا ، بعد ان كانت فرحاً و متعة ...  و أدركتُ انَّ القراءةَ الانتقادية ، و الكتابة الابداعية ، و الفن و الموسيقى ، و غيرها من جوانب الفِعل ، و الابداع الانساني ، هي سعي للبحث عن اجابات ، و وسائل للسعي الى الكمال ، و كتبت نصا - بعد نصوص أملتها علي تجاربي في القراءة و الكتابة - اسميته " الابداع و القصور و الصورة اللغز " ، قلت فيه :

(كان زوربا عندما تخونه الكلمات- و هو على أيِّ حالٍ مغامرٌ لا علاقةَ له بالأدب - كان يرقصُ رقصته المشهورة .... أليست هذه مفارقةٌ جميلة : أن يخلقَ العجزُ الابداع ؟ أن يتحول الحزنُ الى لَحْن ، و الجُبنُ الى قلعة ، و الحبُ المستحيلُ الى أغنية ، و اليدُ القصيرةُ - لصاحب العينِ البصيرة - الى رقصة ، و أن تتحول الغَصةُ الى قصة ؟ .

أليس هذا عجيبا ؟ و لكن لم العجب ، أليس في هذا سعيٌّ الى الكمال ؟ أليس فيه سعي الى فهم الكون، و فهم الذات  ؟ و كأن الحياةَ لغزٌ منحنا الله بعضَ قطعه ، و ترك لنا تخيلَ البقية ، اذن ما كل هذا الفِعْلِ ، و الانفعال البشري ، الا سعي نحو اتمام الصورة اللغز ) .

اذن ، نحن البشر - بممارستنا للقراءةِ و الكتابة ، و بابداعاتنا المتنوعة - نسعى الى الكمال ، الى اكمالِ فهمنا ، و اتمامِ انسانيتنا .

وكم كانت فرحتي عظيمة عندما وجدتُ لاحقا ، في نصٍّ يفيض حيويةً و انسانية ، تأصيلاً و تفصيلاً لهذه الفكرة- او ما يشبهها -  نص دلني عليه القاريء المخضرم ، و الباحث الانساني العميق ، خالي ،  الدكتور محمود السعدي ، النص هو : كتاب " بيداغوجيا المقهورين " للكاتبِ و المربي البرازيلي " باولو فريري" . و كم كانت دهشتي كبيرة عندما قرأته يقول حرفيا : 

 (الناس يعرفون أنهمغير مكتملين ، و هم على دراية بعدم اكتمالهم ، و تكمن في عدم الاكتمال هذا ، و في هذه الدراية ، جذور التعليمِ بحد ذاته باعتباره تجلياً انسانياً محضا . و يقتضي الطابعُ غيرُ المكتملِ للناس ، و كذلك الطابع القابلِ للتحوير للواقع ، ان يكون التعليمُ نشاطاً مستمرا ) .

ويقول - حرفيا - : 

( لا يمكن للاشخاص ان يكونو  آدميين حقاً بمعزلٍ عن البحثِ و الممارسة ... ) .

اذن نحن نتعلم ، و ننبحث ، و نقرأ ، لأننا بشرٌ نسعى الى الكمال ، من خلال تغيير الواقع اللانساني .

ان فريري - بتقديري - مهموم  ، بتغيير الواقع الانساني التعيس الظالم ، الواقع القمعي الاضطهادي العنيف ، لذلك يقدِّمُ كتابَه - منذ المُقدمة - الى "الراديكاليين" المنغمسين في واقع الناس ، المقتنعين بامكانيةِ تغييره ، انه ليس للانعزاليين - سواء كانوا  يساريين  او يمينيين - فهؤلاءسجناء لـ "يقينيات" مطلقة ؛ فاليمينيون الانعزاليون عن الواقع يريدون "تأبيد" الواقع الظالم ، يريدون "تجميد التاريخ " عند نقطة معينة ، و اليساريون الانعزاليون ،  يريدون تجميد المستقبل و قولبته .

اما الراديكاليون فهم المرشحون لتغيير واقع القهر و الاضطهاد من خلال ( تعليم يحقق التحرر الحقيقي ) .

انه تعليم لا تُملى فيه الافكارُ و لا المواضيع ، و لا يوجد فيه طالبٌ و لا معلمٌ بالمعنى التقليدي ، فالطالب يعلمُ و يتَعَلَم ، و كذلك المعلم ، يتحاور الطرفان حولَ الواقع الموضوعي في سعيٍ حثيثٍ لتغييره .

ان الحوارَ - في هذا النوع من التعليم - هو (مواجهة بين الناس ، يكون العالم فيه الوسيط من أجل تسمية العالم ) أو  "تحويره" ؛ أي تغييره الى الافضل ، حسب فريري . و لذلك فان هذا الحوار  ( حاجةٌ وجودية) .

و لأن المطلوب هو التغيير ، يلح فريري على اقتران الفكر بالفعل ، و يعتبر أن " الكلمة " - العنصر الاساسي للحوار -  يجب ان تتكون من فكر و عمل ، هذه هي "الكلمة الحقيقية" التي يمكن ان تحدث التغيير .

و لأن المطلوب هو التغيير ، يفرد فريري حوالي ثلاثين صفحة يناقش فيها كيفية تحديد محتوى الحوار ؛ ان هذا المحتوى - كالكلمة الحقيقية -  يجب ان يعبر عن الناس ، عن تطلعاتهم ، و اهتماماتهم ، و نظرتهم الى الواقع . لذلك يجب ان يشارك الناسُ بفعالية،  في تحديد الموضوعات التي ستطرح للنقاش .

و لان المطلوب هو التغيير ، يجب ان يكون التغييرُ ممكنا ، هنا يلح فريري على تاريخية الواقع الانساني ؛ و طابعه الجدلي ، فالتاريخ يصنعه الناس ، و هو يصنع الناس ، هناك من شيد واقع الظلم و الاضطهاد و القهر ، و من صمم المناهج التي ترعى هذا الواقع ، و تحافظ عليه لمصلحة طبقة معينة ، و لا شك ان هذا الواقع يؤثر على وعيِ الناس و سلوكهم ، و لكن هذا الوعي ، و هذا السلوك ، و الواقع الذي تحاول الطبقة الحاكمة جعله مؤبداً ، كل هذا من الممكن تغييره بعمل و فكر لا ينفصمان ، بوعي انتقادي ، و تدخل في الواقع ، انتقادي أيضا .

ان فريري في منطلقاته ، و اساليبه ، و اهدافه ، صاحبُ نظرةٍ تاريخيةٍ جدليةٍ انسانيةٍ للواقع ، فهو ينطلق من ميزة اساسية للانسان ، و هي : قدرته على تحوير الواقع بفضل اقتران النشاط بالوعي لديه ، او بفضل "الممارسة" ، ان الحيوانات "كائنات نشاط محض" ، و لا تستطيع لذلك تغيير واقعها ، اما الانسان فهو كائن واع ، "كائن قرارات" ، يستطيع تحديد الحدود التي تحدُّ ، و تخطيها ، ان الحدودَ - بنظر فريري و من استشهد بهم - هي بدايةُ الامكانياتِ بالنسبة للبشر ، و ليست نهايتها . 

هذا المنطلق ، أما الاسلوب ، فهو يعبر ايضا عن النظرة التاريخية الجدلية الانسانية ، فهو يرفض " الكلمات الطنانة " التي لا تعبر عن الناس ، و التي تجعلهم أوعية لايداع المعلومات ، بما يخدم النخبة المسيطرة ، و يقترح - كما تقدم - نظاما تعليميا تربويا حواريا ، الكلمات فيه حقيقية و كذلك المحتوى ، بذلك يصبح الانسان من خلال هذا التعليم  "فاعلا" بدلا من ان يكون "مفعولا به"  . 

و اما الاهداف ، فهي مبنية على المنطلقات و الاسلوب ، فما دام الانسان قادرا على التفكير و الفعل ، فهو قادر على تحقيق نفسه كانسان ، قادر على السعيِ الدائمِ لاكمالِ انسانيته ، قادر على " تسميةِ العالم " على "تحويره" و تغييره ليصبح مكانا افضل ، ليصبح انسانياً أكثر .  

باختصار : لأننا بشرٌ ، منقوصةٌ انسانيتُنا ، علينا أن نسعى بجدٍّ لاستكمالها ، و لا يمكن لهذا ان يتم بدون تعليم و تربية حوارية انسانية ، تكشف عورات الانظمة القمعية الاضطهادية اللانسانية ، و تسعى لتشييد نظام انساني .

لاننا بشر ، يجب ان نقرأ قراءة نقدية واعية ، تؤهلنا للتدخلِ في الواقع تدخلا انتقاديا ، تدخلاً يغير العقول و النفوس ، قبل ان يغير المؤسسات و الوجوه . لذلك ،  فان أي عمل سياسي - و هو عمل مطلوب و ضروري - يهدف الى تغيير جذري  ، يجب ان يرافقه عمل تعليمي تربوي حواري في كل مراحله . و الا فشل في التغيير ، فوصول حزب جذري الى السلطة ، بدون قاعدة و مشاركة شعبية واعية لاهدافها ، لا فائدة منه ، لان هذا التغيير سيكون مؤسساتيا فقط ، ستتغير الوجوه ، و يبقى جوهر القمع موجودا ، بل ان المناضلينَ أنفسهم قد يكونون مادة لثورة مضادة ، أو ، قد يستغلون السلطة للانتقام .

المطلوب هو تغيير ثوري حقيقي ، عمل سياسي تربوي تعليمي تحرري ، في جميع المراحل ، و على كل المستويات .

باختصار شديد : نحن نتعلم ، نبحث ، و نقرأ ، لأننا بشر نسعى الى اكمال انسانيتنا ، و ذلك من خلال تغيير واقعنا اللانساني . 

هكذا قال فريري ... أو : هذا ما فهمته من قراءتي لكتابه المهم ، الملتهب بمشاعر انسانية فياضة : بيداغوجيا المقهورين .


ع

علاء حسام هلال

مدمن على القراءة مهتم بالتاريخ و الفكر عاشق للروايه و السير مشغول بسؤال النهضة محب لتراثنا و مؤمن بضرورة الانفتاح على الافق الانساني الارحب

أهلاً بكم في مدونتي! أنا كاتب شغوف أشارككم أفكاري وتجربتي في الحياة من خلال تدوينات أسبوعية. أستكشف فيها التوازن بين القيم والمغريات التي نواجهها يومياً، وكيف يمكننا أن نعيش حياة مليئة بالمعنى والعمق. انضموا إلي في هذه الرحلة الأدبية!

انضم الى اكتب

منصة تدوين عربية تعتد مبدأ البساطة في التصميم و التدوين

التعليقات