بسم الله الرحمن الرحيم
اعتقد أن الوقت قد حان لتجاوز النقاشات العقيمة التي تلوث فضاءاتنا العربية - الخانقة أصلا - و التركيز بدلا من ذلك على نقاشات و ، تأصيلات فكرية ، تؤسس لعمل عربي مشترك يهدف الى تجاوز الواقع العربي المؤلم ، و يقود الى بناء دول وطنية مستقلة ، و ذلك كخطوة اولى ، و أساسية، لبناء شكل ما من أشكال الوحدة العربية.
ان هذه الدعوة تستند الى ايماني بأن الدول العربية لم تتحرر فعليا عندما خرجت جيوش الاحتلال منها ؛ لقد ترك الاستعمار وراءه نخبا ، و أنظمة ، و مؤسسات ، مرتبطة عضويا بالمشروع الامبريالي الغربي ارتباطا عضويا . و هذا يعني :
أن البلاد العربية - عموما - أديرت ، و تدار ، لمصلحة الغرب ، و هي مصلحة تصطدم بالضرورة بالمصالح الوطنية ؛ و هو الامر الذي نتجت عنه المظالم السياسية و الاقتصادية ... و غيرها .
و هذا لا يعني أنني أعلق كل مشاكلنا على شماعة الغرب الامبريالي ، و لا يعني أيضا ، أنني أفسر كل ما يجري وفق نظرية المؤامرة . كلا ؛ فأنا مدرك أن المجتمع العربي مثقل بالمشاكل و التناقضات :
فبنانا الاجتماعية لا تزال في أساستها قبلية و عشائرية ، و منظوماتنا الفكرية لا تزال ، في مجملها ، متخلفة و قديمة ، و قل مثل ذلك عن كل - او معظم - مناحي حياتنا . ولكن ، لا شك أيضا ، أن الأهمية الاستراتيجية للوطن العربي جعلته منذ قرون محط اهتمام القوى الاستعمارية على اختلاف أشكالها و توجهاتها .
- لقد ترك الاستعمار بنانا الاجتماعية - المشوهة أصلا - أكثر تشوها ،
- و ترك بنانا الاقتصادية- الظالمة ، و المتحيزة أصلا - ، تركها أحجارا في البناء الاقتصادي الرأسمالي العالمي ،
- و ترك أنظمتنا السياسية - القديمة و المهترئة - و قد تشخص جسدها في مظهر عصري ( برلمانات و دستور و وزارات ... ) و لكن روحها ظلت قديمة ، قدم تركيبتنا الاجتماعية ، و الفكرية ، و الاقتصادية...
فلا عجب و الامر كذلك أن يحارَب كلّ مشروع، و كل حزب - بل و كل شخص - وطني و قومي مستقل ، و لا عجب أن يدعَم كل مشروع ، و كل حزب - و طبعا كل شخص ، أو حتى شخيص - يمزق هذه الامة ، و يساهم في ترسيخ تبعيتها لمؤسسات الهيمنة الغربية. باختصار ، أعتقد أن المطلوب عربيا هو :
مشروع فكري مؤسساتي شعبي موحَّد ، و موحِّد ، مشروع ينبثق عن حاجاتنا الوطنية و القومية ، همه الاساسي هو : الحفاظ على الدولة الوطنية - خاصة في سوريا و مصر و العراق - كمطلب تكتيكي آني ملح ، و العمل على تحقيق الوحدة العربية ، أو على الأقل على تحقيق شكل من أشكال الوحدة العربية، كهدف استراتيجي بعيد المدى .
في سبيل ذلك اظن أن علينا الآتي :
علينا الكف عن الجدل حول ثنائية " الثورة " و "المؤامرة" كمدخل لفهم و تحليل أهوال سنوات ما عرف ب " الربيع العربي " . و بدلا من ذلك ، علينا الاقرار بأن الواقع العربي - في معظم الدول العربية - كان مهيئا لحراك شعبي ثوري بسبب المظالم السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية ، لكن ، علينا الاقرار كذلك ، بأن الايادي الغربية موجودة قبل الحراك الشعبي في تونس و مصر - وهما البلدان اللتان بدأ فيهما الحراك ، و كان فيه شعبية و عفوية واضحتين - و بعده ، و أن بصماتها القذرة كانت - و لا تزال - واضحة جلية في سو ريا و ليبيا ، و طبعا في العراق ، كما أننا لا نستطيع أن ننكر أن ما يحدث في مصر الآن لا يخدم الا الاهداف و المصالح الامبريالية .
علينا الكف عن تحليل الاحداث العنيفة و الارهابية بمقاربتها فكريا ، لأن هذه المقاربة - برأيي المتواضع - ليست دقيقة علميا ، كما أنها - بالنظر الى انتشارها ، و الى المؤسسات و المراكز و الاشخاص التي تروج لها - تصرف نظرنا عن لب المشكلة ، و أساس الظاهرة الارهابية ، و هي : أسس اجتماعية و اقتصادية و سياسية . و هذا لا يعني أن عقليتنا و فكرنا لا دور لهما في الجرائم التي تحدث ، و لكن ارجاع الظواهرالسياسيةو الاجتماعية الى جذور فكرية فقط ، لا يكفي لتفسيرها ، كما انه يعفي المتهمين الرئيسيين في القضية من المسؤولية المباشرة و غير المباشرة . هؤلاء المتهمون هم :
الانظمة بالمعنى الشامل والواسع لكلمة الانظمة ؛ و اقصد بشمول الكلمة ، ان المتهمين هم الانظمة المحلية العربية ، و العالمية الغربية ، و اقصد باتساع كلمة الانظمة ، ان المتهم ليس جهات عربية و غربية بعينها ، بل ما تمثله هذه الجهات من توجهات سياسية و اقتصادية جائرة ، توجهات ينتج عند تطبيقها ثراء و امتيازات لقلة من البشر ، و فقر و اقصاء لغالبية خلق الله .
و يرتبط بالملاحظة السابقة ملاحظة مهمة : ان ما يعانيه العرب ليس معاناة عربية خالصة ؛ بل هي معاناة مرتبطة بأزمات و مشاكل عالمية الطابع ؛ فعدا عن كون معظم انظمتنا مرتبطة بالغرب - و تخدم بالتالي اهدافه التي تتناقض مع مصالح الغالبية العربية المحرومة- عدا عن ذلك ، يمر النظام الراسمالي العالمي بأزمة خانقة يقوم بحلها - كدأبه دائما - على حساب الآخرين ، و الآخرون هنا ليسوا العرب فقط ، بل هم العمال و الموظفون و عامة البشر - حتى الغربيين - الذين يشكلون وقودا لآلة الراسمالية الضخمة البشعة . لقد شكل الانسان سوقا للر اسمالية و اداة لتشغيلها ، و شكلت الارض كلها مادة خام لمصانعه ، و مكب نفايات ضخم لسمومه . و نحن جزء من هذه اللعبة القذرة الخطرة ، بالتالي : فان تحركات اللاعبين الكبار ، و تقلبات مزاجهم ، و صراعاتهم ، و نتائج العابهم ... كلها تؤثر علينا ، خاصة لاننا مرتبطون بهم عضويا .
و هذا يعيدنا الى البداية : اهمية الاستقلال السياسي و ا لاقتصادي ، ان تعاطي "الاحزاب " و " النخب" مع ما عُرِف بالربيع العربي - الحقيقي منه و المشبوه - لا تبشر بخير حتى الان ؛ فقد اتضح ان "الاحزاب السياسية" و "النخب" لا تعرف عن التغيير الا تغيير الوجوه ، فعلى سبيل المثال :
لم تتردد بعض الاحزاب( الاخوان في مصر ) عن الاعلان عن التزامها بالاتفاقيات مع اسرائيل (صنيعة الغرب الاستعماري و الشوكة في حلق العرب ) ، و لم يتردد الاخوان في مصر ، و النهضة ( و هي مدرسة اخوانية ايضا ) في تونس من القبول و الخضوع لارتباط مصر و تونس بالمؤسسات المالية الدولية . و ها هي مصر و تونس تعانيان . طبعا لا احمل الاخوان هنا مسؤولية المآسي العربية ، و لكن (نخبنا ) الاسلامية و العلمانية ، لا تملك كما اتضح رؤيا ، و لا برامج واضحة و موضوعية . هذا اذا افترضنا حسن النية ؟!.
على اي حال ، في كل مكان كانت "الاحزاب" و " النخب " تنقاد و لا تقود الحراك ، لست هنا طبعا في معرض تقييم دورها ، و لكنني أقرر امرا واقعا حدث : الجماهير تحركت ، و رفعت شعارات تطالب بالحرية و الكرامة و الخبز ، و النخب تبعتها ، اظنها سنة كونية ، و من "السنة الحسنة" ان تقودالجماهيرُ النخبَ في مرحلة تاريخية معينة ، ان تــلهِمَهم ، بعد ان صدَّعت النخبُ رؤوسَ الجماهير بتنظيراتها .
و هذا يقودنا الى نقطة في غاية الاهمية : ان الشباب - و عموم الناس - يعيشون اليوم فترة عصيبة ؛ فقد حطمت السنوات السابقة آمالهم ، و دمرت مراكبهم ، و اظن ان الشباب تحديدا - رغم ما مر بهم من أهوال - يراجعون الآن حساباتهم ، و يلتقطون انفاسهم ، و سيدركون ان النخب لم تقدم لهم شيئا (بل ان بعضها تآمر عليه ) لذلك سيصوغ الشباب - مستفيدا من تجربته ، و تجربة النخب الفاشلة ، و ان كانت ليست بلا فائدة - سيصوغ مشروعه ، الذي يجب ان يكون مشروع الكل الوطني و العربي . و انا هنا لا أُملي ، لا اقترف ما انهى عنه ، و هو : "النخبوية" ، ان زمن الاملاء ولى بلا رجعة ، و لكني يجب ان اساهم ، و ان يساهم الجميع في صياغة مشروع فكري مؤسساتي وطني عربي شعبي يوحِّد و لا يفرق ، و لا موحِّد - بكسر الحاء - الا ما يتوافق مع تطلعات و احلام و آمال الشباب و المضطهدين.
و بما أننا بصدد مشروع تحرري وطني قومي مستقل ، فلا بد - بنظري - من الاستفادة من الافكار ، و المشاريع ، العالمية المناهضة لهيمنة راس المال على العالم ، و هي تجارب و ان كانت محلية التطبيق الا ان فيها عناصر كونية استقتها هي اصلا من ينابيع متنوعة و طورتها ....
هذه مجرد ملاحظات املتها تنهدات الشباب و آلامهم و يأسهم ، عسى ان تساهم في تحقيق احلامنا يوما ، فنسمع صوت ضحكاتهم بدلا من تنهداتهم ، و نقرأ عن آمالهم و طموحاتهم ، بدلا من آلامهم و يأسهم .