ولما جاءته امرأة من أهل المدينة قد رأت رؤيا محزنة؛ إذْ فيها إشارة إلى وفاة زوجها في سفره، وإلى ولادتها غلاماً فاجراً ـ وكانت حاملاً ـ فبشرها النبي صلى الله عليه وسلم، وأوّلها لها تأويلاً حسناً؛ فقال: «خَيْرٌ؛ يَرْجِعُ زَوْجُكِ عَلَيْكِ إِنْ شَاءَ الله تَعَالَى صَالِحًا، وَتَلِدِينَ غُلاَمًا بَرًّا، فَكَانَتْ تَرَاهَا مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلاَثًا كُلُّ ذَلِكَ تَأْتِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَيَقُولُ ذَلِكَ لَهَا، فَيَرْجِعُ زَوْجُهَا وَتَلِدُ غُلاَمًا» [رواه الدارمي بإسناد حسن]. وكان يقول: «إِذَا عَبَرْتُمْ لِلْمُسْلِمِ الرُّؤْيَا فَاعْبُرُوهَا عَلَى الخيْرِ، فَإِنَّ الرُّؤْيَا تَكُونُ عَلَى مَا يَعْبُرُهَا صَاحِبُهَا» [رواه الدارمي بإسناد حسن]. وغير ذلك كثير مما يدل على حبه صلى الله عليه وسلم للتفاؤل وحثه عليه.


الكلمة التي تؤتي أُكْلها كل حين:


كثيرا ما يتداول الناس أخبارا عن فضائح اجتماعية، أو أقاويل تخص حياة الناس الشخصية، ويتناقلون روايات سلبية وسيئة عن بعضهم البعض، يخرجُ المستمع منها برؤية سلبية عن طبيعة البشر، وبنظرة متشائمة عن الحياة. فالحديث عمّا هو سلبي سيترك تأثيرا سلبيا في الإنسان بمجرّد سماعه، وهذا النوع من الحديث إنْ لم يؤثّر في القلب في تلك اللحظة فسيشعر الإنسان لاحقا بكآبة لا يعرف سببها.

إذا استطاع الإنسان أنْ لا يُدخل في أُذنيه إلاّ الجيِّد من الأخبار فليفعلْ. بل يمكن القول أنّ أغلب الأمراض النفسية والاضطرابات التي يعاني منها الإنسان يعود سببها إلى ما تُدخله العين من مشاهد وما تسمعه الأذن من كلمات. فإذا كان المنظر الحسن يُدخل البهجة في النفس، كذلك الكلمات الجميلة أو القبيحة تفتح في ساحة الخيال مشاهدا للفرح  أو مشاهدا للحزن، وترسم الكلمات في الخيال مشاهدا بحسب معانيها السلبية أو الايجابية. فالكلمة هي مفتاح القلب وتتحدد طبيعة مشاعر القلب بطبيعة هذا المفتاح .

إنّه بإمكان كلمة واحدة فقط أنْ تهدم بيوتا أو تؤسِّسها. بكلمة واحدة، يمكن أنْ تجمع بين شخصين، أو حتى بين جماعتين، أو بين فئتين متناحرتين. بكلمة واحدة، يمكن أنْ تخسر شخص، أو تكسبه مدى الحياة. ويمكن أنْ تجد عملا لائقا بكلمة واحدة فقط. ويمكن أنْ تخسر منصبك بمجرّد كلمة. ويمكن أنْ تغيِّر من مسار حياة إنسان، بكلمات. إمّا نحو طريق الحق، أو نحو طريق الضلال. 

الكلمة لها فعلها في الوجود وعلى القلوب لأنّها قد تؤثِّر على حياتك على نحو إيجابي، أو سلبي. فهي التي يمكن أنْ تُبكي  أو تُضحك، تُفرح أو تُحزن. لهذا، يمكن لكلمة عفوية صادرة منك أنْ تؤثر في مشاعر إنسان. وقد تحدِّد علاقتك معه إلى الأبد. فالقلب يتأثر بما يسمعه من كلمات، وتتغير مشاعره من اليمين إلى الشمال، بحسب طبيعة الكلمات التي نسمعها من الخارج. لهذا لن نخسر شيئا إذا أحسنّا اختيار أجمل الكلمات ونُلقيها على مسامع أصدقائنا وعلى أفراد عائلتنا، تماما كالرسّام الذي يحسن اختيار أجمل الألوان ليشكِّل لوحته.

لهذا خاطب النبي عليه الصلاة والسلام عندما جاءته امرأة من أهل المدينة قد رأت رؤيا محزنة؛ إذْ فيها إشارة إلى وفاة زوجها في سفره، وإلى ولادتها غلاماً فاجراً  وكانت حاملاً ـ فبشرها النبي صلى الله عليه وسلم، وأوّلها لها تأويلاً حسناً؛ فقال: "خَيْرٌ؛ يَرْجِعُ زَوْجُكِ عَلَيْكِ إِنْ شَاءَ الله تَعَالَى صَالِحًا، وَتَلِدِينَ غُلاَمًا بَرًّا، فَكَانَتْ تَرَاهَا مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلاَثًا كُلُّ ذَلِكَ تَأْتِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَيَقُولُ ذَلِكَ لَهَا، فَيَرْجِعُ زَوْجُهَا وَتَلِدُ غُلاَمًا"

انظر كيف عبّر وأوّل النبي عليه الصلاة والسلام رؤيا مزعجة ومرعبة إلى كلمات جميلة ومشاهد مستقبلية مُبهجة. وذلك من أجل أنْ يُدخل السُرور في قلب المرأة ولكي يُزيل عنها الخوف. وإذا كان الأمر هكذا بالنسبة إلى رؤيا بسيطة فما بالك بأحداث الحياة الحقيقية، فهي أوْلى بالتأويل الحسن. لقد أوّل وفسّر النبي عليه الصلاة والسلام رؤيا يُشير ظاهرها إلى الحزن والأسى والخوف إلى تفسير يحمل خبرا جميلا ومُفرحا يُدخل السرور والأمل والابتهاج على القلب والخيال. بالرّغم أنّ ظاهر ألفاظ الرؤيا يوحي بحوادث مؤلمة ومرعبة مناقضة تماما للتأويل الجميل الذي أوّله النبي عليه السلام. 

القضية تعود إلى الطريقة التي نفهم بها الأشياء:

ما نتعلمه من تفسير النبي لهذه الرؤية هو أنّ فهمنا للأشياء لا يجب أنْ يتجه نحو ما هو سلبي ومحزن وظلامي بل يجب أنْ يتجه نحو ما هو إيجابي وسار. فليس كل ما تراه يجب أنْ تفهمه أو أنْ تؤوِّله على نحو سلبي. بل يجب أنْ يُبحث عن أوجهه الايجابية التي يحتملها، وما نفهمه وما نُؤوِّله عن الأحداث يبقى في النهاية كلمات نقولها لأنفسنا، وهذه الكلمات تؤثر في رؤيتنا للأشياء وعلى مشاعرنا ومزاجنا. وللأسف أصبح كل واحد فينا يُتقن فن النقد وملاحظة العيوب والتقاط النقاط السوداء من الحياة ومن الأشخاص. أصبح كل واحد فينا يُبرز تذمّره من العالم الذي يعيش فيه بإيجاد مساوئه وله دراية كافية بملاحظة عيوب الناس التي لم يلاحظها الآخرين. تجد أحدهم يلتقط الأخطاء التي يقع فيها زميله في العمل ويتناسى المئات المحاسن التي يتصف بها. فهذا لا يرى من الورقة البيضاء غير النقطة السوداء منها، وتجد آخر يذكر بالنقد والتجريح مرحلة رئيس الدولة الفلاني ويتناسى إنجازاته، وشمائله. والبعض الآخر، يتفنن في ايجاد سقطات هذا العالِم أو ذاك ويتناسى إنجازاته ومآثره. 

لقد اعتدنا أنْ ننظر في النقطة السوداء من الورقة، ولم نربِّي عقولنا على رؤية البياض. صحيح أنّ النقد ضروري ولازم من أجل أنْ نحسِّن حياتنا. ويجب أنْ نمارسه على أنفسنا بكل موضوعية من أجل تجاوز الأخطاء. وهو يدخل من باب النصيحة والتنبيه. ولكن لا يجب أنْ ننسى الجانب الجميل من الوجود وأن ْ نكون منصفين حتى مع أعدائنا ومع منافسينا وإلاّ كان ذاك النقد، بغير معنى لأنه سيبقى مجرد نقد تُحرِّكه الأهواء والعواطف. فقد جاء في سورة المائدة على ضرورة العدل والإنصاف بقوله تعالى:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8). الأمم لا تتقدم بالنقد العاطفي بل تتقدم بالنقد الإيجابي الذي يبحث في المحاسن والسلبيات. فعندما تخرج إلى الشارع وتلتقي ببعض الناس لا يتوقفون عن النقد، والتجريح وإبراز الملل والتململ والتشاؤم التي يعانوه في الحياة ومع الأشخاص. هؤلاء الناس اعتادوا على رؤية الجانب المظلم من الحياة ولم يدرّبوا عقولهم على رؤية الايجابيات.

أنت منْ تختار تأويل أحداث العالم:

لقد فسّر النبي عليه الصلاة والسلام الرؤيا تفسيرا متفائلا وايجابيا بالرّغم أنّ ظاهرها يوحي بالسلبية والحزن. ومع ذلك حاول أنْ يُحافظ على نفسية المرأة من أي تعكُّر يصيبها بالحزن. فلماذا لا تتجه حياتنا على هذا النحو؟  أنْ نُدخل السرور على أنفسنا وعلى معارفنا بتأويل الحياة تأويلا حسنا وايجابيا. بدل من الامتعاض والتململ والتجريح. فالتأويل والفهم الحسن لوقائع الحياة هو كلمات إيجابية ستُدخل الفرح والسرور علينا وعلى معارفنا. لأنّ أوّل من يتأثر بتأويل العالم وبفهم مجريات الأشياء هو نحن. فإذا رأيت سلوكا معينا أو سمعت كلمة ما. فإذا وجدت لهما قراءة حسنة وتأويلا متفهِما طيِّبا كان له تأثير إيجابي عليك، أمّا إذا أوّلْتهما تأويلا سيئا كان له تأثير سلبي وكنت أنت نفسك ضحية لهذا التأويل.

نحن من يحدد سعادتنا من عدمها من خلال أسلوب فهمنا للأحداث، فإذا كنا نفهم ونفسّر ونؤوّل: ما نرى وما نسمع على نحو حسن، ونجد لها احتمالات من الخير والأمل، والحب والرجاء سيكون العالم عندنا مصدر سعادة وفرح. وإذا كنا نقرأ كل أحداث العالم من منطلق سلبي سيكون العالم عندنا: مصدر تعاسة ولن يكفينا العالم برحابته لكي يُدخل في قلبنا السعادة. وإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام قد عبّر وفسّر رؤيا يبدو ظاهرها محزنا إلى تفسيرات جميلة ومفرحة فلا بد أنْ نعبّر ونؤوِّل أحداث العالم التي تحدث لنا ومن حولنا تأويلا وتعبيرا حسنا وايجابيا. والتأويل الحسن للأشياء وللأحداث يجب أنْ نمارسه مع غيرنا حتى ندخل في قلوبهم السعادة. فبدل أنْ نتفنن في إيجاد مساوئ العالم لنظهرها للناس بدلا من ذلك، علينا أنْ نجد في العالم ما يُدخل في قلوبهم السعادة. فالناس هي في كآبة وحزن، وتعاسة ولا ينتظرون من يزيد في تسويد وتعكير حياتهم. فهم أحوج إلى من يفتح لهم أبواب الأمل والتفاؤل.

والإنسان مسؤول عن طبيعة فهمه لمجرى الأحداث فهو الذي يحدّد تأويل الكلمات التي يسمعها ومعنى الوقائع التي تحدث بالقرب منه. والمأساة أنّ قراءتُنا السلبية للأحداث، وللكلمات وللأحلام سيعود تأثيرها بالدرجة الأولى علينا. فنحن من يتأثّر بهذا الفهم السلبي ونحن من يعاني ويتألم به.أمّا شعور الناس بنا، فهم لا يُبالون بما فهمناه أو بما فسّرناه، فهم لا يعيشون في داخلنا ولا يسمعون كلماتنا الباطنية. فالسعادة والشقاء حالة نفسية داخلية لا يشعر بها الآخرون. وإذا كنت أنا من يتأثر بتفسير وبتأويل الأشياء والعالم  والكلمات. فالأوْلى والمهم عندي أنْ أبحث عن تفسير جميل لكل ما يحيط بي ولكل ما يحدث لي وحولي لأنّ ذلك يهمني وحدي ولا يهم غيري، فأنا الذي أشقى أو أسعد بهذا التأويل أو ذاك.

خلاصة

كثيرا ما نردد عبارة: لقد غاب من الحياة ذوقها ولم يُعد لها ذلك الذوق الذي لمسناه وعهدناه لها في الماضي، ولم نعد نتذوق تفاصيل ولم نعد نرى تلك البهجة في الأعياد والمناسبات، ولم نعد نجد أي متعة في أحاديث الناس والأصدقاء والأقرباء. وهذا الأمر صحيح ذلك أنّ الحياة فقدت طُعمها عندما غيّرنا طريقة فهمنا ونظرتنا للحياة السعيدة. ذلك أننا ركزنا قيمة الحياة في جمع المال وخدمة النفس الأنانية وبناء المساكن والقصور، وأهملنا وأقصينا: الشعور بالآخرين وتخلينا عن التواضع والبساطة. فقدت الحياة طُعمها عندما اعتقد كل واحد منا أنّ الفرح يجب أنْ ينعم به وحده دون غيره. ولكن، الحقيقة أنّ السعادة لا تُمنح لفرد لوحده. بل هي شعور يظهر ضمن مجتمع يغيب عنه التنافس والأنانية وحب الذات. يمكننا أنْ نستشعر جمال الحياة ونتذوق تفاصيلها عندما يسعى أفراد المجتمع مجتمعين وموحدين في مواجهة مشكلات وأزمات الحياة ونتقاسم أفراحها وآلامها معا.