عن النبي عليه السلام أنه قال: "من صمت نجا"(متفق عليه).
عن عُقْبَة بن عامر -رضي الله عنه-قال: قلت: يا رسول الله ما النَّجَاة؟ قال: «أَمْسِكْ عليك لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيتُك، وابْكِ على خَطِيئَتِكَ».
[صحيح] -[رواه الترمذي وأحمد.]
إنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالى مَا يُلقِي لهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّه بهَا دَرَجاتٍ، وَإنَّ الْعبْدَ لَيَتَكلَّمُ بالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ تَعالى لا يُلْقي لهَا بَالًا يهِوي بهَا في جَهَنَّم رواه البخاري.
كيف تتمرّد الكلمة؟
شخصيا أتذكر الكثير من الكلمات التي تفوهتُ بها على إثر شجون الأحاديث، خلال الجلسات التي كنت أقضيها مع زملائي وأصدقائي، أتذكرتلك الكلمات لأنّي ندمت على نطقها أصلا ووددت أنها لو لم تخرج إلى عالم الاسماع، فقد تخوفت وخشيت أنْ يؤخذ معناها غير الذي أردت، أو يفهم مقصدها غير ما كنت أقصد.
الكلمة التي تصدر من الإنسان إذا ما تفوّه بها لا تكون مما يتحكّم فيه الإنسان، بل تكون مما يتحكم فيه المستمع. أعني: أنّ الكلمة عندما تكون في عقل الإنسان قبل أنْ يتفوّه بها له كامل الحرية في تهذيبها، وتعديلها، وإضافة أشياء إليها. ولكن، بعد أنْ يتفوه بها المتكلم، ويتلفّظ بها، سوف لن يكون له تأثير في تحديد كيف يفهمها المستمع سواء بهذا المعنى أو ذاك ، بهذه الطريقة، أو تلك. وأنّه ليس لنا عليه سلطان، في أنْ نحدد فهمه لها.
قد ندمت على الكثير من الكلمات التي قلتها، وتلفظت بها. ربّما، قد وجدت نفسي متسرعا، أو كنت سريع الحكم على الأشياء، أو الأشخاص، أو كنت ممن تكلّم في شيء، لا يعنيه، ولا يعرف عنه كل شيء.
الكلمة، أو الكلام عندما يكون بداخلك، تستطيع التحكم فيه، وإنْ شئت قد لا تقوله أصلا، ولكن. بعد أنْ يصير مكتوبا، أو مسموعا، فهو قد خرج منك، ولا تستطيع تعديله. لكن ستبقى تتحمّل مسؤوليتك الأخلاقية عليه، فهو في النهاية يُنسب إليك، وينتمي إلى شخصك وفكرك.
الكثير من الكلام الذي صدر منّى، وددت لو أنّه لم يصدر مني أصلا، ولم أتفوه به على الاطلاق. ففي كل مرة أتكلم بكلام لا يرضيني أندم عليه، ويسبب لي تعاسة وكآبة، وأخشى من أن قد يفهم على نحو خطأ، أو على نحو سيء. لهذا بدأت أفكّر ألف مرة قبل أنْ أتكلّم. والآن: أفضل الصمت على الكلام، وخير لي من أقول: يا ليتني لم أقلها، يا ليتني لم أتكلّم.
لو تسأل الكثير من أهل المقابر الذين ماتوا، لو مكّن الله لهم بالكلام، لقالوا: إنّما أوردنا الموت هو لساننا.
البعض من الناس قُتل لأنّه تكلّم وطعن في شرف جاره أو زوجة أخيه. وشخص قُتل لأنّه شتم، وأهان فلان أمام الملأ فانتقم هذا الذي شُتِم وأُهين بقتل هذا الشخص. والكثير من أصحاب المقابر الموتى قتلوا لأنّهم أوشوا بأسرار يعرفونها أمام الملأ وأذاعوها.
اللسان قد يؤدي بالمرء إلى الموت، وهذه الكلمة التي لا نلقي لها بال قد تنهي حياة الإنسان إلى الابد. بل والكثير من حالات الفتن، والصراعات التي تحدث في المجتمع مصدرها الكلام، والقيل، والقال. ولو أنّ الناس صمتوا، لرأيت المجتمع يعرف السلام، والهدوء، والمحبة، ولما عدت ترى الكثير من حالات الفتن، والتباغض الموجود بين الناس.
الكلمة بوصفها حياة للإنسان
وإذا كانت هناك كلمات تقتل صاحبها، وتودي إلى السجن. هناك كلمات تحيي الإنسان بأتم معنى كلمة. فالإنسان الذي يعرف متى يتكلم، ومتى يصمت يُلبس على شخصيته الكثير من الوقار والهبة، وشخصه يتسم بالوقار حتى ولو لم يكن يتبوّأ منصب سامي في الدولة، حتى لو لم يكن يملك مال يصنع له احتراما اجتماعيا. عندما تتكلم فأنت تُعرّف نفسك من خلاله. فكم من شخص يبدو موقرا، ومحترما. وقد ينتابك الوجل، والخوف من الحديث أمامه. فإذا ما تكلّم فضح نفسه. وسأضرب مثالين واقعين عايشتهما بنفسي:
المثال الاوّل: أعرف شخصا يسكن بالقرب مني، وهو رجل فقير، وبسيط وليس في رأس ماله إلا طاولة من خشب لا يتجاوز طولها المترين يضع فوقها بعض الخضر، والفواكه لبيعها، ولكن على شخصه وقار، وهبة آتية من تصرفاته. إنّه يتقن فن متى يتكلم ومتى يصمت. نراه لا يتكلّم إلا فيما يهم.
المثال الثاني: كنت أحترم أحد الزملاء في العمل، احتراما صادرا مما يبدو عليه ملبسه الذي تبدو عليه ملامح الفخامة، ومن هيبة السيارة التي يمتلكها، وكانت بيننا لبعض السنوات تحية السلام. ولكن بعدما جمعتنا ظروف العمل مع بعض، تبدّد وتبخر ذلك الاحترام والوقار الذي كنت أصبغه على شخصه بسبب أنّه عرّف على نفسه أمامي بكلامه. فكلامه لا يخلو من استعمال العبارات المخلة بالحياء، والسب، والشتم.
الكلام ليس مجرّد تعبير عن الحاجات، وعن المشاعر، والأفكار، وإنّما هو أيضا بطاقة تعريفية عن النفس، وإذا كانت بطاقة الهوية تعرف عن الجسد من خلال الاطلاع على صورة الوجه، ومكان، وزمان المولد. فإنّ الكلام هو بطاقة تعريفية عن النفس، فبواسطته نتمكن من معرفة ثقافة، وأخلاق الشخص، ومعرفة طريقة وطبيعة تربيته، ومعرفة جوهر أفكاره التي تسيطر عليه. فمن خلال الكلام يمكن أنْ نأخذ صورة نفسية إجمالية عن هذا الشخص.
والكلام ليس ما نقوله، بل أيضا ما نكتبه. والكثير من الحضارات أسِّست في بادئ أمرها بكلمات وحي، أو بفكر مصلح، أو بخطب بطل. فالقرآن الكريم أسّس الحضارة الإسلامية من خلال كلمات القرآن الكريم، وأوروبا أصبحت متقدمة علميا وحضاريا، من خلال كلام الفلاسفة، والعلماء، والفنانين. وسقطت الحضارات أيضا، بعلاقتها بالكلمات من خلال أنّها لم تعد تهتم للكلام الجدّي والباعث على النهوض والتقدم، واستسلمت للكلام الذي فيه الهراء والتهريج، والتفاهة. وفي المعارك العسكرية القديمة والحديثة يؤخذ الكلام وطبيعته بمحمل الجدية، فينتصر جيش على عدوه، بخطبة حماسية ايمانية، ويخسر جيشا المعركة بسبب خطبة لا يوجد فيها الحماس وتظهر فيها ملامح عدم الجدية.
والفرح والحزن يتحددان هما ايضا بما نقوله من كلمات، فإذا كان جل كلامنا هراء وتهريج وتفاهة، سنصنع لأنفسنا صورة تافهة ومخزية. وسيعرفنا الناس حقيقة شخصيتنا من خلال ما نقوله ونتحدث به. سواء طال الزمن، أو قصر، وسوف نسمع من يقول لنا: كلامك تافه، وشخصيتك منفِّرة. وسنرى كيف أنّ الناس تتجنبنا؟ وهذا لا يعني أنّ الإنسان لا يمزح ولا يستعمل بعض الفكاهة في حياته، بل الفكاهة والابتسامة والمرح تعتبر مِلح الشخصية ومما يدخل في جاذبيتها. ولكن يتعلق الأمر عندما لا يتم الإكثار من الهراء والضحك والتفاهة.
أصناف المتكلمين: عندما تأملت في أصناف المتكلمين ممن خالطتهم طوال حياتي وجدت أصنافا متعددة وهذه بعضها:
الصنف الأول: شخص يتكلّم لأجل أنْ يتكلم، المهم أنْ يثبت حضوره بين الجالسين، حتى ولو لم يكن يفقه في الأمر شيئا، ما يهمه هو أنْ يتكلّم، ليقال أنّه هنا.
الصنف الثاني: شخص ثرثار، يتكلم في شيء لا يستحق الكلام الكثير بكلام عريض، وطويل، ويأخذ كل وقت الجالسين، فتذهب بذلك متعة الجلوس، ولذة الحديث مع الأصدقاء. فالثرثار يقص عليك الحكاية من البداية، من أجل أنْ لا يقول أيْ شيء في الحكاية. وهمه في ذلك: أنْ يتكلم كثيرا.
الصنف الثالث: شخص لا يتكلم عن قناعة، همّه أنْ يقول كلاما لكي يعارض مع المعارضين، ونكاية في منافسه، فهو يتكلم لأجل المعارضة، وليس انطلاقا من قناعة.
الصنف الرابع: شخص يأخذ كل وقته في التكلم بطريقة فكاهية، وهو يبحث عن إثبات الوجود بالتفاهة، تعويضا عن نقص المعلومات والثقافة.
الصنف الخامس: شخص يهوى القيل، والقال، يبحث عن فضائح حدثت في قريته، وفي مدينته. ليحولها إلى رأي عام. وهو بذلك يبحث عن مكانة له في المجتمع، لنقص موجود في مؤهلاته، أو لوضعه المجتمعي البائس، وايضا ليحوِّل انظار الناس عنه، ليغطي عن فضائحه هو نفسه.
الصنف السادس: حديث الحساد، والمبغضين وهو كلام يأتي للتنفيس عن مشاعرهم التي تأكل بعضها البعض، جرّاء النجاح الذي يحققه نظراؤهم من المحسدوين. فكلامهم يخلط الحق بالباطل، ويبحث عن العثرات، والعيوب لإنزال والتنقيص من مرتبة الناجحين والمتفوقين أمام الرأي العام.
الصنف السابع: حديث من يبحث عن الشهرة، يبحث عن كل ما يثير انتباه الناس، ليقوله ويذيعه. ويدخل في ذلك حتى صنف بعض المتبحرين في الدين، ليأتوا بحديث نبوي، أو بآية ويفسرونها بطريقة تخالف المألوف. من أجل أنْ يُحدثوا جلبة على وسائل الإعلام.
الصنف الثامن: وهو حديث المغرور ، فهو شخص يتكلم عن نفسه كثيرا، يتحدث لك، عن كل ما قام به من الصباح إلى المساء، ويذكر كل المناطق التي زارها، منذ عشرين سنة، والأحاديث التي قالها وقيلت له. ويحب ذاته، ويقول لك: أنا يعجبني هذا الشيء ولا يعجبني ذاك، أنا لا تعجبني إيطاليا بل ألمانيا، ويتحدث كثيرا، عما يحبه من الألبسة، والمأكولات، يكثر في حديثه أنا وأنا ..
الصنف التاسع: شخص يخترع حكايات من عنده ووقائع خيالية، وإذا تحدث عن واقعة حدثت له بالفعل، يضيف لها الكثير من المغامرات أو الرعب، حتى تبدو أكثر إثارة، فتختفي قصته الحقيقية في ركام متراكم من الكذب. لا يقول شيئا إلا وأضاف أشياء جديدة من عنده.
الصنف العاشر: كلام الصادقين، من يتحدّث في الإصلاح، وعن الخير، والفضيلة وهمه إرجاع النفوس إلى الطريق المستقيم، ويدخل في ضمنه حديث الشيوخ والعجائر وحتى من الشباب الذين اختبروا الحياة، فيحدثوك عن العبر التي اكتسبوها وفهموها من تجاربهم الطويلة.
في جمال الصمت:
من المفروض، أنّ الكلمة التي لا تأتي بخير، وبِنفع على الإنسان، تستحق ألّا تُنطق. صحيح أننا لا نصبر على غريزة الكلام، ولكن ما فائدة الكلام الذي نقوله، ولا يجلب لنا أي فائدة؟ ما فائدة حديث لا يأتي لنا بأي شيء؟ فقلوبنا تحتاج أحيانا: إلى أنْ نخرص، أنْ لا تتحرك ألسنتا بالتلفظ بكلمات نندم عليها في النهاية. أن نستريح من الكلام الذي نقوله لأصدقائنا، لأزواجنا، لأخواتنا ...للغرباء. فأحيانا ننطق بالكلمة، فتتمرّد علينا، ولا يمكن أنْ نوقفها في أذهان من يسمعوها. لأن لهم الحق في أنْ يؤولوها، ويفسروها كما يشاؤون.
أحيانا نحتاج إلى الصمت حتى تشفى أرواحنا من الكلام، بل عندما نتذكر ماضينا، نجد أنّ الكثير من أوقات تعاستنا، وكآبتنا كان مردّها إلى كلمات نطقناها، ثم ندمنا عليها.
الصمت في أحيان كثيرة، يكون أفضل للإنسان من الكلام. فالصمت لا يجلب أي تأويل، وأنْ يعتقد الناس أننا أغبياء لأننا صامتون، خير من أنْ نتكلم، ونؤكد تلك الظنون كما يقول المثل. وللصمت فائدة أخرى: أنْ يبتعد الإنسان عن اللغو، وإهدار الطاقة، وإطلاق الكلمات المؤذية أو التي لا نتيقن من صحتها. هذا الصمت العقلاني يجلب راحة للعقل والقلب.
قال لي صديقي ذات يوم، وكنت عندها كثير الكلام: كلامك ليس له فائدة للناس فلا يهمهم هذا الكلام ولا ينتفعون به، والأفضل أنْ تشتغل بنفسك وبمشكلاتك وتكتب أفكارك، وقد تحوّلها إلى كتاب في يوم ما. أمّا هكذا فأنت ترمي الماء في الرمل. ومضت الأيام، وعرفت أنّ الكثير من الكلام الذي قلته، والأفكار التي ناقشتها معهم، بغير فائدة تذكر، فلا هذه الأفكار تغيرهم ولا هي تنفعهم. وكان الأولى، أنْ أهتم بالصمت وأطوّر من نفسي. فلا داعي للكلام من أجل الكلام. وزاد صديقي قائلا: في الوقت الذي تهدر فيه الكلام مع هؤلاء الناس، يوجد من أوجد لنفسه وضعية اجتماعية، ومادية سمحت له بتحقيق أهدافه على أرض الواقع، وأنت لا تزال تتكلم، وتسرح في أوهامك.
نعم،كلام صديقي لم افهمه في وقته، إلا بعد مرور سنوات، واستنتجت أنّ الكلام لأجل الكلام مضيعة للوقت، وليس إلا إظهار لقدرات، وعضلات المتحدث على نحو جيد، أي تحقيق للذات على مستوى الوهم فقط. أما الناجحون فعلا فهؤلاء الذين يقضون أوقاتهم في الصمت الاستراتيجي، ويبحثون عن أي فرصة لتحقيق ذواتهم على أرض الواقع.
ولعل السبب الرئيسي في فشلنا هو ذلك الكلام الذي لا يهدف لأي شيء غير الكلام.
ومن جمال الصمت أنّه وقاية من الوقوع في المشكلات، فعواصف الفتن، إذا هبت على قوم ما، فلا ينجو منهم إلا الذين صمتوا، وعرفوا متى يتكلموا، ومتى يصمتوا.
ولا شك أنّنا في زمن الإعلام، زمان الكلام بامتياز، وكل شخص له إمكانية في الكلام في أي موضوع شاء. نعم، كثر المتكلمون في كل مجال من المجالات، وقد نجد أنّ من يستحقون الكلام، لا يتكلمون، كأهل الاختصاص والعلماء. أصبح الكلام تجارة، ويجلب الأموال من المواقع الالكترونية. وأصبحنا نتبع من يحترف الكلام، ويزوقه، ويزخرفه، ولا نتبع المضمون، ولا المحتوى. لذلك كثر الكذب لأجل التجارة، كثر التهويل والمبالغة في نقل الوقائع، كثرت مواقع تبيع أوهام الشفاء للناس. لأنّ الكلام أصبح تجارة يجلب الأموال. وعندما نستمع للكذب، ويعجبنا جمال الكلام، نبتعد عن الحقيقة. فليس كل من يتكلم يقول الحقيقة. وقد يكون الصمت، أفضل من بيع الأوهام، والكذب. والتاريخ يثبت أنّ حبل الكذب ليس بطويل، ولا يبقى من الكلام، إلا ما ينفع الناس، أمّا الهراء، والتفاهة، فهي تشبه الزبد، ستتلاشى وتزول. فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ الرعد: 17
إنّ الصمت يعلمنا الإنصات الجيد، يسمح لنا بالتعلم، بالتأمل، لا يجعلنا نتسرّع في قول أي شيء، فإذا أحسنا الصمت، أحسنا الكلام. وهذا الكلام هو الذي يصنع لنا، فرحا، وسعادة لنا وللآخرين. وقد يكون هذا الكلام علما ينتفع به.
.