فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ، فَقَالَ: "مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ قَالَ: "الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ، وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ"
(الْبُخَارِيُّ: (6512)، وَمُسْلِمٌ: (950)).
فَعَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ، قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنَ الْخَيْرِ، وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: "تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ"
(صَحِيحِ مُسْلِمٍ، (2642)).
أُترك أثرا جميلا
الحياة تبدو لمن تدبّر أحوالها، ولمن لم يتبقى لهم منها إلا أيام معدودات تبدوا لهم مثل: ومضة برق ظهر فجأة واختفى. هي بالنسبة لهم أشبه بحلم عاشه المرء في غيبوبته، ما كاد يفرح به حتى استيقظ. الحياة ليست إلاّ أيام تمضي سريعة وتتركنا وراءها عابسة، فتدفعنا قصرا نحو الموت لتستقبل أناس آخرين بابتسامة كاذبة.
ألا يستحق منّا الأمر، أنْ نترك شيئا جميلا وراءنا؟: كلمة طيّبة يسمعها الآخرون منّا، معروف نقدّمه لمحتاج، ساعة، أو ساعتين مع الله، دعوة صادقة صادرة من قلوبنا، لندعوا فيها الله، لأنفسنا، وللمؤمنين، والمؤمنات، والمسلمين، والمسلمات الأحياء منهم والأموات: بالرحمة، والمغفرة، والعفو. قبل أنْ ندخل القبر، ونندم على لحظات حياتنا، ويقظتنا. على دعوة فرّطنا، وتكاسلنا في قولها.
ففي هذه الحياة نملك إرادتنا ولنا حرية الاختيار في توجيه أفعالنا. ولكن عند الموت، لا نملك إرادتنا. فهي مسلوبة منّا، وإذا أردنا أنْ نفعل لا نستطيع أنْ نفعل.
لا أقصد أنّ نكون رهبانا، نعتكف في المساجد، وأنْ نُبقي أنفسنا في الزوايا الضيقة من الدنيا. منتظرين نهاية أجلنا. كلا، بل أقصد: أنْ نعيش الدنيا بحذافيرها دون أنْ ننسى مبدأ: "ترك الأثر الجميل في حياة دنيوية غير خالدة"
الكثير من الأشياء نفعلها بغير جدوى: اغتياب شخص ما، حقد على زميل، اتهام منافس، التضايق من وجود إنسان، حسد، وكراهية فلان. أليس من الأثر الجميل، أنْ أقول كلاما جميلا، وأمضي عن فلان بدل من اغتيابه؟ على الأقل، أكف لساني عنه. أليس من الأثر الجميل، أنْ أقّدم لأناس معونة مادية، ودون أنْ أنتظر منهم جزاء، أو شكورا؟ أليس من الأثر الجميل، أنْ أترك مكاني نظيفا في العمل، أو عند زيارتي لمدينة ما، أو عند تعرّفي على أُناس جدد؟ أليس من الأثر الجميل، أنْ نوقف الخصام، وأنْ لا نبدؤه أصلا، مع شخص كثير الخصام؟ أليس من الأجمل، أنْ نرحل من مكان عشنا فيه لسنوات، وسكان ذلك المكان يذكروننا بخير، ويبتسمون عندما يتذكروننا؟
عندما أتيقن بأنّ زمن الحياة ليس إلاّ كمن استظل تحت ظل شجرة ومضى. أتيقن معها أنّ كل أثر قبيح نتركه ليس إلا جهل بحقيقة هذه الحياة.
أكتب أثرك من أجل كتابك
عندما أتيقن بأنّ كل ما فيها فان، أتيقن أنّ خلودي الحقيقي هو في الحياة الأخرى لهذا عليّ أنْ أترك أثرا جميلا وأمضي.
لا يهم ما يقوله النّاس عني، ساذج، أو غبي، لا يعرف مصلحته، أو تقليدي، أو جاهل بحقيقة الحياة، لا يهم ما يطلقونه عليّ من ألقاب، أو أسماء، أو أوصاف. فما دمنا نعرف أنّ الحياة ليست إلاّ سجِّل لأعمال الإنسان في كتاب غير مرئي الذي سنقرؤه يوم القيامة. فما دمنا نعرف ذلك، علينا أنْ نكتب ما هو أجمل في هذا الكتاب وأنْ نترك أثرا جميلا.
أتركهم يقولوا ما يشاؤون، لأنّك تدرك ما لا يدركون، إنّهم يعتقدون أنّ الذكي هو الذي يعرف كيف يُخادع؟ أو كيف يكذب؟ أو كيف يسرق دون أنْ يُكشف؟ أو كيف يتم خداع امرأة ساذجة؟ أو كيف يتم التلاعب والتحايل؟...إلخ .
الحياة تعلمنا يوميا شيئا واحدا وهو:أنّ من يدّعي الذكاء، وقدرته على الإحاطة بكل شيء، سيسقط يوما ما في فخّها، ولن ينجو من حبائلها. اقرأ كتاب الأخبار، ستجد بعض السياسيين، والملوك، ورجال الأعمال ادعوا الفطنة، والدهاء. وسقطوا في النهاية في فضائح، ومصائب عملتها أيديهم. وفيهم من قتل غدرا، وخيانة وانتهوا على يد خصومهم.
لا شيء أجمل يا صديقي من أثر جميل، تتركه وراءك وترحل. تقول كلمتك الصادقة، وترحل. تقدّم معروفا كبيرا كان، أو صغيرا، وترحل. لأنّ كل شيء، يزول، ويمر، ويمضي، وتفنى عظامك. ولكن أعمالك الجميلة مكتوبة، ومسجّلة في الكتاب الخالد الذي ستقرؤه يوما.
الناس صباحا معك ومساء ضدك
ولكن، ليس هذا معناه: أنْ أترك شيئا جميلا، ليقال:عني أنّي كنت طيِّبا، أو كنت فاضلا، أو كنت رجلا صالحا. لأنّي بهذا، ضربت كل أعمالي في الصفر. لأنّي دخلت في دائرة الريّاء الذي يبطل الحسنات. لأنّها لم تكن لله.
ففي يوم القيامة، الله هو الذي يحاسب، وليس الناس. وكل واحد منهم، في شأن يغنيه.
عبادة الناس عبادة باطلة، والعمل لهم عمل باطل. ومهما عملت للناس، وصنعت لنفسك صورة مثالية، وجميلة عن نفسك عندهم. فلن يقدّروك ولن يعترفوا بجميلك أبدا.
الأثر الجميل الذي يتبعه الإخلاص هو الذي يُنجّي، فإذا ما عملت شيئا جميلا، أقول في نفسي: أريد من تركي للأثر الجميل: حسنات، ومدّخرات أجدها في كتابي الذي سأقرؤه في يوم القيامة. فلا أُريد وجه الناس، أو سمعة. لأنّ الناس هالكون، وميّتون، وكلامهم متغيّر باستمرار، بحسب أهوائهم.
والنّاس يا صديقي، متغيّرة ومتلوّنة. صباحا معك، ومساء ضدّك. بل في كل ساعة يتقلّبون، ويتكلمون فيما يشتهون. ويميلون في كلامهم مع الخائضين، فنفس الشخص قد يتكلم عليك بالخير، أو بالشر.قد يمدحك عندما يجالسك، ويغتابك عندما يجالس غيرك حسب مزاجه، ومصلحته معك. وإنْ كان حال الناس هكذا في مواقفهم. فلماذا أُعير كلامهم اعتبارا؟ ولماذا أنشغل بهم طوال الوقت، من أجل أنْ يكوِّنوا عنى صورة مزاجية متغيرة. بل علينا أنْ نترك أثرا جميلا من أجل أنفسنا وفقط. من أجل أنْ نقرأ كتابنا في يوم القيامة، دون خجل، ودون خوف. والناس يا صديقي مهما فعلت لهم، فهم دائما مع الأقوى، فهم مع من يخدمهم من السياسيين، ورجال الأعمال، أمّا أنت البائس، فلا يهمُّهم أمرك.
أترك أثرا جميلا وامضي، لأنّك ستلاقي نفسك في قبرك.
وما أجمل أنْ نغادر هذه الحياة، وقد تركنا كل أماكننا بيضاء، وناصعة. ما أجمل أنْ نغادر هذه الحياة، ولم يسمع منّا أحد كلمة سيئة، أو قبيحة جارحة للمشاعر. دعهم يُؤذوك، ويسبوك، ويغتابوك، ويمكروا بك. فلا ترد عليهم بأسلوبهم، بل رد عليهم بلسان واقع الحال: سأغادركم بالمعروف، وبالحسنى. سأترك أثري جميلا عندكم، لأنّ أذاكم، وسبّكم، ومكركم سيمضي عاجلا، أم آجلا، وسأتحمّلكم مهما كان. لا ترد على أعدائك. أترك أثرا جميلا، فقط وامضي. وتذكر قوله تعالى: وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ۖ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) سورة الحجر
ما أجمل أنْ نرحل إلى القبر، فتشتاقنا الأماكن، والأشخاص، والأصدقاء، والأحباب. لأنّهم يتذكروننا بأعمالنا التي تركناها: مساعدة مادية، أو معنوية، كلمات طيبة. ما أجمل أنْ نرحل إلى قبورنا، فتنتظرنا كالعادة قطط، أو كلاب كنّا نطعمها، ونهتم بها فتتساءل فطريا: أين ذلك الإنسان؟ أين ذهب؟ وتبحث في وجه كل إنسان تراه عن وجوهنا؟ وما أقبح أنّ نرحل وقد بدت على الناس ابتسامة خفية، وتشفّي داخلي، واستراحة وجدانية مريحة، لأنّهم تخلصوا من شرورنا، ومن أخلاقنا الفاسدة، ومن أعمالنا الشيطانية.
أترك أثرك الجميل وامشي. لأنّك ستلاقيه في وحدتك، في قبرك. لأنّ أثرك الجميل هو أنت، وأثرك القبيح هو أنت أيضا، وأنت من يختار ما نوعية الأثر الجميل. فهل أنت الأثر الجميل، أم أنت الأثر القبيح. اختر هذا، أو ذاك، لأنه عملك في النهاية.
يا ليته كان جديدا يا ليتها كانت مكتملة
يُحكى أنّ رجلا في احتضاره، أصابه وجع الموت، وآلمته سكراته. وهو في ذلك الحال، أخذ يردد كلمات: يا ليته كان جديدا، يا ليتها كانت كاملة. وأخذ يرددها مرارا. فتساءل أبناؤه الذين كانوا من حوله، وسألوا أباهم: يا أبانا ماذا كنت تقصد بكلام أخذت تردده، ولم نفهم منه شيئا: يا ليته كان جديدا، يا ليتها كانت كاملة. قال الأب، وقد خف عنه بعض الألم: لقد تذكّرت في هذه اللحظات الصعبة، يوما تصدّقت فيه، بمعطف كان قديما، وددت الآن لو كان جديدا. وتصدّقت في يوم آخر: بنصف رغيف من الخبز، وددت الآن، لو انّي تصدّقت به كاملا. وعندما قال الأب هذه الكلمات، تلفظ أنفاسه الأخيرة، وفارقت روحه الحياة.
إنّنا لا يمكن أنْ نعرف أهمية الأثر الجميل، إلا عندما نصبح على أبواب الموت. وعندما تصبح إرادتنا، وعقلنا لا يقدران على فعل الخير. لهذا ففي لحظة الموت، قد نندم على ردة فعل سيئة قمنا بها إزاء أشخاص ظلمونا، ونود لو أننا عفونا، وسامحنا، لأجل نيل في مقابل ذلك الأجر العظيم. وقد نندم على أفعال حسنة، وفاضلة قمنا بها، نودُّ لو أنّها كانت أحسن، وأفضل، وأكمل.
فما دمنا أحياء، فيمكننا أنْ نمارس العفو في كل ليلة على كل شخص. قد اغتابنا، ظلمنا، مكر بنا، شتمنا. ونيتنا في ذلك: الأجر العظيم.