عَنِ النَّبِيِّ عليه السلام أنّه قال: لا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: خَبُثَتْ نَفْسي، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: لَقِسَتْ نَفْسِي متفقٌ عليه.



أهمية  الحكم على النفس:

الكثير من الأشياء نفعلها ونكررها يوميا ولا نولي لها أي إهتمام، إذ نعتبرها تافهة بغير ذات قيمة بحجة أنّها لا تؤثر على حياتنا، لكن لو تأملنا فيها قليلا لعرفنا خطورتها على تحديد مستقبلنا وعلى نظرتنا لأنفسنا. منها ذلك الكلام الذي نطلقه على أنفسنا بدون أي تحفظ وبدون أي رقيب. يتعلق الامر بالاحكام الجارحة التي نصدرها على أنفسنا وفي هذا يقول النبي عليه السلام: " لا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: خَبُثَتْ نَفْسي، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: لَقِسَتْ نَفْسِي"

من البديهي أنّ كل كلامنا نحن البشر يمر عبر الحوار الذي نجريه في أنفسنا ، إذ أننا قبل أنْ نتكلم يكون هذا الكلام حديثا في أذهاننا في شكل أفكار لا تسمع. وهذا الكلام هو عبارة عن أفكار وأحكام. فالفكرة الداخلية  لا ترتقى إلى الوجود إلا باللغة. كما أنّ مزاج الانسان ومشاعره تتحددان أيضا بطبيعة الافكار التي بداخله وبنوعية الكلمات التي يتكلمها،  ولاشك أنّ إختيار الفكرة الملائمة والكلمة الطيبة هي مفتاح الوصول إلى السعادة والطمأنينة. لهذا من الضروري أن نعيد النظر في طبيعة الكلام الداخلي الذي يكون بداخل النفس. هذا الكلام الداخلي هو جانب مهم وحسّاس من حياتنا الشخصية، إذ يتعلق بنا وبطبيعة أفكارنا ومشاعرنا. ذلك أنّ أحكامنا على العالم  وعلى الناس وعلى النفس يتأسّس على هذا الحوار الداخلي الذي يكون في بدايته مجرّد كلمات وأحكام بسيطة نردِّدها في داخلنا.

إنّ أغلب حديثنا نحن البشر يكون مع النفس، وربما يكون حديثتا مع ذواتنا في الداخل أكثر بكثير مقارنة مع حديثنا مع غيرنا. هذا الحديث هو في النهاية: حديث النفس مع نفسها .ولكن الكثير منا يعتقد أنّ هذا  الحوار الداخلى ليس له أهمية ولا يُعيره أيْ اهتمام بحجة أنّه كلام باطني عادي وأنّه مجرّد كلام غير مسموع من طرف الآخرين. ولكونه كذلك فلا يهم ما نقوله في أنفسنا على أنفسنا أو على غيرنا ما دام كلام داخلي لا ينجرُّ عنه أي شيء.

ولكن الحديث مع النفس هو أوّلا نقاش في داخل النفس حول فكرة ما، فهو أخذ ورد، سؤال وجواب، تأكيد ونفي بين متحاورين اثنين هما: الذات، ونفسها.  الانسان ونفسه  ومن المؤكد أنّ نهاية هذا الحوار سينتهي إلى حكم على ذلك الموضوع الذي تناقشه في داخلك. إمّا أنْ يكون حكما إيجابيا، وإمّا أنْ يكون حكما سلبيا. وتكرار هذا الحكم من خلال الحوارات الداخلية المتتالية يولِّد بفعل التكرار انطباعا وقناعة. وهكذا سيؤثر هذا الحكم الذي تحول إلى انطباع وقناعة إلى تحديد طبيعة رؤية الإنسان لنفسه وللآخرين وللحياة وبالتالي سيتأثّر سلوكه ومواقفه، وحياته على أساس هذا الحُكم .إذن، يمكن القول أنّه بإمكان حديث بسيط مع النفس وبفعل التكرار سوف يحدد حياتنا. لهذا أشار النبي عليه الصلاة والسلام إلى المعنى بقوله: "لا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: خَبُثَتْ نَفْسي، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: لَقِسَتْ نَفْسِي" 

الأحكام السلبية، نقد غير هادف

يعلمنا سيد الانبياء محمد عليه السلام كيفية الحديث مع النفس. لاحظ أنّ جملة: "لقِست نفسي" تتلطف على النفس مقارنة بقول "خبُثتْ نفسي".  وهذا يعني أنّ التعامل مع الذات يحتاج إلى كلمات مُلطّفة أقل حِدّة وقسوة . ذلك أنّ أيْ حُكم على النفس سوف يولِّد ايحاءات متوالية تتحول بدورها إلى احكام ستوجّه نظرة الفرد إلى نفسه سواء بالسلب أو بالإيجاب. فالكلام الداخلي وإطلاق الأحكام على الذات يجب أنْ يكون إيجابيا طيبا حتى ولو كانت هذه النفس مسؤولة عن الفشل والخطأ. وبعبارة أخرى بسيطة: حتى ولو كنتُ أنا مسؤولا عن فشلي وهزائمي وأزماتي فلا بُدّ أنْ يكون حُكمي على نفسي مُلطّفا عندما انتقدها. فلو لزم الأمر مني أنْ أعود على ذاتي: بالنقد والمراجعة والمحاسبة فلا يجب أنْ تكون تلك الانتقادات جارحة ومُسيئة إلى درجة تدمير الذات لأنّ الاستمرار في النقد والتجريح والإساءة للذات هو نقد غير هادف لأنّه سيولّد ذات منهزمة ومحطّمة.

والواقع أنّ الكثير من الناس عندما لا يصلون إلى أهدافهم، ويفشلون في تحقيق البعض من طموحاتهم، أو عندما يرتكبون بعض الأخطاء أو عندما يخسرون بعضا من مكانتهم وأموالهم ..، نراهم ينطوون على أنفسهم ويمارسون التهديم الطوعي والمجاني لذواتهم بإطلاق الأحكام عليها: أنا فاشل ولا أصلح لأيِّ وظيفة، أو يقول: أنا إنسان لا يستحق ذلك المنصب لأني فشلت في ثلاث مسابقات، وقد نسمع آخر يقول: أنا إنسان قد انتهت حياتي بدخولي إلى السجن. الغريب أنّك تجد من يقول لصديقه: أنا منظري قبيح ولا يقبل بي أيْ شريك لعلاقة زواج. والأدهى والأمرّ عندما يظن شخصا في نفسه الخسّة والسفالة  عندما يقول: لا يمكن أنْ أقترب من ذلك الشخص لأنّه أعظم مني رتبة ومالا وسلطة فأنا مجرّد إنسان بغير قيمة في هذا العالم.

هذه الأحكام ليست فقط أحكاما سلبية قاتلة تُثبِّط النفس على العمل وتشلُّ الإرادة عن الكفاح من أجل الحياة، بل هي أيضا تهديم مجّاني للشخصية وليس له أي فائدة لنفس وهبها الله للإنسان كان المفروض عليه الحفاظ عليها وترقيتها وتربيتها وتزكيتها. وبدل ذلك التجريح المجّاني الهدّام أغيّر من طريقة محاورتي لنفسي مغيِّرا من طبيعة العبارات المستعملة. كأنْ أقول: نعم، أنا فشلت ولكن، مازالتْ هناك فرص أخرى. نعم، أنا أخطأت. ولكن، لدي وقت لأعوّض ما فاتني. نعم، أنا دخلتُ السجن بسبب جريمة. ولكن، سأُثبتُ لنفسي وللعالم أنها مجرّد هفوة. نعم، أنا قبيح المنظر. ولكن مواهبي تجعلني جميلا. أنا لست إنسان بغير قيمة. بل لي رسالة أؤدّيها على مستوى عائلتي ومهنتي ومجتمعي. نعم، هناك من يعتقد أني بغير قيمة. ولكن، هناك مستقبل لا يزال أمامي لأثبت فيه غير ما يظنون.

المزاج الجيد حوار داخلي راقي

توجيه الحوار الداخلي والتحكُّم فيه هو أوّل خطوة لترتيب الفكر وتنظيم المشاعر.بل يعتبر خطوة مهمة لفتح أبواب السعادة. وذلك بالابتعاد عن الأحكام التهديمية المجانية التي يمكن أنْ نقع فيها ونجلد من خلالها ذواتنا. وهذا يكون باستبدال تلك الأحكام الهدامة بحوار راقي  لطيف مع النفس يكون طريقا لبعث مشاعر الفرح والسرور في القلب ودافعا للإرادة لكي تنبثق بكل قوتها لمواجهة مشكلات الحياة. وهذا لا يعني غض الطرف عن الأخطاء التي نرتكبها ونتعثر بها، كما لا يعني أيضا عدم مراجعة حساباتنا ومساراتنا. بل يجب النظر نقديا وموضوعيا في كل خطوة نخطوها في هذه الحياة . إذْ عندما ترتكب خطأ واحدا فأنت تتعلّم، وإذا ارتكبت خطأ ثانيا مشابها للأوّل فهذه زلّة يمكن أنْ تُغتفر. ولكن عندما ترتكب خطأ ثالثا مشابها للأوّل والثاني فعندها أنت إنسان لا تتعلّم من ماضيك وسوف تُؤثّر تلك الأخطاء على نفسيتك وعلى ثقتك بنفسك. فخطورة الأخطاء أنّها تترك أثرا سيِّئا مستداما على النفس، والشفاء منها يكون بعدم تكرار نفس الأخطاء. وإذا كان الله غفور رحيم بالبشر. فإنّ البشر لا يغفرون أخطاءك الكثيرة.

وفي إصلاح أخطائنا والشفاء منها يلزم منّا الأمر الابتعاد عن لوم الذّات إلى درجة القسوة عليها وتحطيمها وهو ما نُسمّيه: بالتهديم المجاني الإرادي لذواتنا. لأنّه لا يأتي لنا بأي فائدة وتعويضه بدل من ذلك بالنقد الإيجابي الذي يجعلني أمشي على رجلي من جديد، وليس بذلك النقد الذي يُقعِدني إلى الآبد في مكاني. النقد الايجابي هو: الذي يقفز بي من الحفرة التي وقعت وفيها وليس بذلك النقد الذي يدفنني فيها إلى الأبد. 

إنّ البكاء المستمر على خيبات الذات وأخطائها وهفواتها وسقطاتها، أو التألم بسبب تموقعك ومركزك البسيط على مستوى تراتبية المجتمع أو شعورك بالدونية بانحطاط قيمة نفسك على مستوى الحياة ليس إلّا تصور ذاتي خاطئ عن نفسك تكوّن من خلال حواراتك المتتالية في داخلك. كما أنّ استعادة ذلك الشعور الدوني في داخلك في كل مرة سيعيد تكرار نفس الشعور السيئ والبغيض والمشمئز في داخلك وهو الذي سيكوِّن لديك انطباعا يصهرك بداخله وتنظر من خلاله إلى الحياة والعالم. والمطلوب هو تغيير زاوية الرؤية لتنظر  من خلالها إلى نفسك على نحو أفضل. ففيك أشياء تتجاوز بها الكثير من تعتقدهم أنّهم أحسن منك ولك أشياء معنوية وروحية لا يمتلكونها.

ثم ما فائدة لوم الذات والقسوة عليها بالأحكام؟ فهل هذا اللوم والنقد سيُخرج الإنسان من الفشل ومن الهزيمة ومن أخطاء الماضي؟ هل القسوة على الذات ستصحِّح لك ماضيك وتحولك إلى إنسان آخر؟ 

هذا اللوم لا يُقدِّم ولا يُؤخر. إنّ ما يهمني في هذه اللحظة هو كيفية الخروج من عنق الزجاجة

مفتاح  إصلاح النفس  ليس بإصدار أحكام قاسية عليها بل بتغيير أسلوب التعامل والحديث معها ومنهج ذلك أنْ لا أقول: خبُثت نفسي. بل أقول: لقِست نفسي. وأنْ لا أقول: أنا مّجرم قد انتهت حياتي وتلطّخت سّمعتي لأني دخلتُ السجن. بل أقول: نعم، دخلت السجن، وهي هفوة ومازالت الحياة مستمرة لأثبت أنها هفوة وسوف أكون إنسانا مختلفا. فن الحديث مع النفس أنْ لا أقول: لقد ارتكبتُ ذنبا عظيما لا يغفره الله لي. بل بالأحرى، أقول: نعم، لقد ارتكبت كبيرة وإني نادم عليها، وموقن بأنّ الله تعالى سيعفو عني ولن أعود إلى ارتكابها أبدا.