عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رأى مبتلى فقال: " الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضّلني على كثير ممن خلق تفضيلا"، لم يصبه ذلك البلاء"
السلسلة الصحيحة
الابتهاج بما في اليد
الكثير منا يتطلع إلى ما يمتلكه الغير من أشياء، ويتمنى لو أنّه يملك مثلها، وينسى النِّعم التي يمتلكها وينعم بها.
التطلع إلى ما يمتلكه الغير وتمني نعمهم، يُنسي النعم التي وهبها الله لنا، فالسعادة ليست تطلع إلى ما هو ليس في اليد، بل هو الابتهاج بما هو لدينا، والشعور بالنّعم التي هي في حوزة الإنسان، هي السعادة بعينها. فالحاجات التي تنقص الانسان، لا تُعد ولا تحصى، فلو عدّد الإنسان ما ينقصه من أشياء فلن يُحصيها. والحاجات في حياة الإنسان في تزايد دائم وتظهر متطلبات أخرى لم تخطر على بالِهكلّما انتقل من حال إلى حال ومن مرحلة عُمرية إلى أخرى.
السعادة ليست شيئا آخر غير الشعور العميق والكثيف بما نمتلكه من أشياء والبهجة بها. لأنّها لنا وبحوزتنا وفي ملكنا. هذا الشعور ببهجة الامتلاك يؤدي بنا لكي نحافظ عليها من خلال الاهتمام بها والسعي إلى الإبقاء عليها. أمّا الذي يريد المزيد ولا ينظر إلى ما بين يديه، فيدفعه سلوكه إلى التفريط بها، فيفقدها دون أنْ يشعر وسيندم على فقدانها في الأخير.
كم من شخص كفيف لا يملك عينان لينظر بهما إلى الحياة، يتمنى لو أنّه ينظر إلى الأشياء بضع لحظات ليتعرّف عليها كما رواها المبصرون له، يتمنى لو أنّه ينظر إلى العالم ليتمكن من معرفة هذه الأشياء التي عرفها فقط من خلال اللمس أو الشم أو من خلال التخيُّل.
ماذا نكسب في نظر الأعمى من خلال نعمة البصر؟ وماذا نكسب في نظر المعاق من خلال أرجلنا التي نمشي بها ؟.......
قد يتمنى شخص ما سيارة مرسيدس، ويحسد غيره عليها، إنّه غير قنوع بسيارته العادية، وينسى أنّ له عينان سليمتان، ورجلان سليمتان، وفوق كل ذلك هو في صحة، وعافية يتمناها الآلاف الذين يفتقدونها.
إدراك إمكانيات الذات شرط لتحقيق النجاح
نعم، الإنسان يتطلع دائما إلى ما هو أفضل ويريد تحقيق المستحيل من أجل إثبات ذاته، وخاصة في وسطه الاجتماعي،كما أنّ التفوق على الغير ليس عيبا، وإنما العيب في تمني ما يمتلكونه من أشياء.
نقطة الضعف في التمني اللامعقول هو أنْ يتمنى شخص ما أشياء، لا يمكن أنْ تدخل ضمن حدود إمكانياته العقلية والجسدية ومثال ذلك: الذي يتمنى أنْ يكون لاعب كرة قدم مشهور: كمارادونا أو بيلي أو ميسي، وهو لا يمتلك مواهبا كمواهبهم أو على الأقل لم يوهب له جسدا بخصائص جسد لاعب كرة قدم بمستوى عالمي. فكيف يطمح هذا الشخص أن يكون مثل هؤلاء؟ أو كالذي يريد أنْ يكون عبقريا:كأنشتاين، أو ابن رشد، أو أبي حامد الغزالي، أو البخاري. وهو لا يمتلك الملكات العقلية من أجل الوصول إلى درجاتهم العقلية والعلمية.
وهذا لا يعني أنّ الإنسان قد لا يصل إلى مستوى هؤلاء أو لا يتفوق عليهم. بل تاريخ تطور الإنسان قائم على تجاوز الأخطاء التي وقع فيها العباقرة. وكما يقول المتنبي: ولم أرَ في عيوب الناس عيبًا كنقص القادرين على التمام، ولكن المشكلة أنْ يُريد شخص عادي يعلم يقينا أنّ له قدرات محدودة ويريد أنْ يكون مثل هؤلاء الذين غيروا التاريخ فهذا تضييع للجهد والوقت.
أو نجد شخصا يريد أنْ يكون صلاح الدين القرن، أو خالد بن الوليد، أو عمر بن الخطاب، إنّه يتماهي ويتطابق مع هذه الشخصيات ويريد تمثُّلها في شخصه ويشعر في نفسه: أنّه هو صلاح الدين الأيوبي أو عمر بن الخطاب. ويقوم على أساس ذلك: بإقصاء الآخرين وممارسة الديكتاتورية، ولا يستمع للصوت الآخر، لأنّه يعتقد أنّه عظيم من عظماء المسلمين. فهذا التماهي اللامعقول والتمثُّل بالشخصيات، يُنسي الإنسان شخصيته الحقيقية وامكانياته العقلية والنفسية. ذلك أنّ عمر بن الخطاب، وخالد بن الوليد كانا معلمهما رسول الله وأصحابهما من خيرة البشر، وكان القرن الذي عاشا فيه، هو أحسن القرون بامتياز. ولا يمكن أنْ يظهر عمر بن الخطاب، أو خالد بن الوليد آخرين إلا بتوفر الشروط التاريخية.
وهذا لا يعني بتاتا أنْ لا نجعل تلك الشخصيات التاريخية كنماذج نقتدي بها ونجوم بالليل نهتدي بها وقدوات نسير على سيرها، ولكن الخطير أنْ يعتقد شخص ما أنّه هو عمر بن الخطاب، أو صلاح الدين الأيوبي وينسى ذاته وإمكانياته الحقيقية باعتباره إنسان عادي، أقل بكثير من هؤلاء الشخصيات التاريخية.
ولا يعني هذا أيضا، -وهذا أمر مهم – ألا تظهر في بلادنا العربية والإسلامية في عصرنا الحالي شخصيات عظيمة، قد تغير الأوضاع نحو الأفضل. بل يمكن أنْ تظهر شخصيات مستقبلية لها شروط ظهورها، تختلف عن شروط ظهور الشخصيات التاريخية الإسلامية. لأنّ شخصية في التاريخ لها شروطها العائلية والاجتماعية والعلمية والعالمية تحدِّد ملامحها والعمل الذي تقوم به في التاريخ.
والأصح أنْ يفهم الإنسان قدراته وإمكاناته، ثم يسير نحو تحقيق طموحاته، فهو إن استمر نحو أنْ يكون مثل هؤلاء العظماء فلا هو يحقق ما حققوه، ولا هو يحقق أهدافه القريبة منه. وهذا معناه أنْ يكون الإنسان واقعي بقدر المستطاع، ويسير وفق إمكانياته العقلية والجسدية والمادية. وكلّما حقق المرء هدفا من أهدافه الواقعية يُفكر في هدف ثاني أكبر من الأول.
قيمة الأشياء التي نمتلكها
إنّ الحرص على امتلاك ما لا نمتلكه هو في الحقيقة إعدام للفرح وإهمال لذلك الشعور الجميل والرائع الذي كانت ستمنحنا إياه الأشياء التي في حوزتِنا لو شعرنا بقيمتها الحقيقية، الحرص بهذا المعنى يأكل مشاعر السعادة، لأنه يُنقص من قيمة الأشياء التي نمتلكها ويُفقدنا لكل شعور بالغنى والقوة ويُشعرنا دائما بمشاعر الفقر والحاجة.
البهجة بالأشياء التي في حوزتنا تعني: أن نرفع من شأنها في أنفسنا وأنْ لا نحطّ من قيمتها من خلال النظر إلى ما فوقها. بل ننظر إليها بوصفها ذات قيمة، لأننا محظوظون لأنّ ملايين الناسِ لا يمتلكونها. عن النبي أنّه قال: انْظُرُوا إِلَى مَنْ هو أَسفَل مِنْكُمْ وَلا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوقَكُم؛ فهُوَ أَجْدَرُ أَن لا تَزْدَرُوا نعمةَ اللَّه عَلَيْكُمْ متفقٌ عَلَيْهِ، وهذا لفظ مسلمٍ. وفي رواية البخاري: إِذا نَظَر أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عليهِ في المالِ وَالخَلْقِ فلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلُ مِنْهُ".
فالحرص على امتلاك الأشياء لا يمكن أن يُشبع النفس، فالأنانية في النفس لا يرويها شيء. أمّا من يوقف جوع النفس ونهمها، فهو الشكر الذي من أحد معانيه: البهجة بامتلاك هذا الشيء، ورفع من قيمة وشأن هذا الامتلاك.
إنّ الكثير من أفراد المجتمع لا يشعرون بما يمتلكون إلا عندما يفقدوه. انظر إلى نعمة الصحة فعندما يصاب المرء بحمّى فقط، يتمنى لو أنّه يشفى منها ويعود إلى حالته الأولى. انظر إلى نعمة الحرية فعندما يدخل الإنسان السجن، يتمنى لو أنّه يعانق الحرية، ويتمشّى في البراري، والسهول، ويتجول في شوارع المدن. انظر إلى نعمة العافية يتمنى المُبتلى لو أنّه يرتاح من متاعب الدنيا وجراحاتها، ويعيش يوما بغير حزن ولا كآبة.
لا نستطيع أنْ نعرف قيمة الأشياء التي نمتلكها إلّا عندما نفقدها. فلماذا لا نعطيها قيمة وهي في حوزتنا؟ ولكي نعرف قيمة الأشياء التي نملكْ علينا أنْ نسأل الناس الذين يفتقدونها. وحتى الحياة التي بحوزتنا هي نعمة عظيمة لا نعرف قيمتها إلّا عند الذين ماتوا، يتمنون لو تُوهبْ لهم الحياة دقائق ليصلوا، ويتصدّقوا، ويعفوا، ويسامحوا.