عن النبي عليه السلام أنّه قال: "الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ. احْرِصْ علَى ما يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ باللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ، وإنْ أَصَابَكَ شَيءٌ، فلا تَقُلْ: لو أَنِّي فَعَلْتُ كانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَما شَاءَ فَعَلَ؛ فإنَّ (لو) تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ".
الراوي : أبو هريرة | المحدث : مسلم | المصدر : صحيح مسلم
لا شك أنّ الانسان في هذه الحياة يريد أن يترقى وينمو في جميع الاتجاهات والنواحي، فطالب العلم يريد أن يصبح عالما، والعامل الموظف يريد أن يحقق بعمله تحقيق ما يكفيه من الحاجيات المادية التي تنقصه، والفقير يبحث عن عمل لكي يسد به حاجياته المختلفة، والغني يبحث هو الآخر عن تثبيت مكانته. وكذلك ينطبق الامر على الدول والامم، كل واحدة منها تسعى لتحقيق الارتقاء والتقدم. وتحقيق التقدم والنمو والترقي لا يتم إلا بالقيام بالواجبات والاساسيات المطلوبة. لكن في حين نجد أنّ بعض الافراد والامم تنجح في تحقيق ذلك، نجد في المقابل أفرادا وأُمما يراوحون مكانهم، ولعل من أسباب ذلك: عدم الحرص على ما ينفع الفرد أو الامة في أمور العلم والعمل، فتتشتت الجهود في أمور وقضايا وأعمال لا أهمية لها، ويُهدر بذلك الوقت والجهد. فكيف يمكن أن نفكر بطريقة تجعلنا نستفيد من الحياة ونقتنص فرصها؟
لعله من الاسباب التي تركت بعض الناس في وضعهم البائس مراوحين مكانهم وجعلتهم لا يخرجون من دائرة الاحباط ، اشتغالهم على ما لا ينفعهم وما لا يعنيهم، لذلك بقيت شخصياتهم بعيدة عن النمو والرقي المعرفي والمادي والاخلاقي، لا شك أنّه مما كان سببا في فشلهم هذا، وعدم تقدمهم إلى الامام، اشتغالهم على أمور لا تتقدم بهم نحو الافضل. لقد كانوا مما يشتغلون على أعمال يعتقدونها ذات أهمية، في حين أنها لا تتقدم بهم ولا شبر نحو تحقيق معنى لوجودهم.
هنا قاعدة وردت في حديث النبي عليه السلام وهي: احرص على ما ينفعك، وهي قاعدة يمكن أن تكون فلسفة عامة لعمل الافراد والامم. يتعلق الامر بالحرص على ما ينفع الانسان في دينه ودنياه والا بتعاد عن كل ما يعترض الطريق لتسلق سلم الحياة. سواء نحو انجاز نجاحات دنيوية أو أعمال صالحة تكون ذخرا يوم القيامة.
فلنأخذ أمثلة من واقع الامة العربية والاسلامية التي ينتشر فيها عدم الحرص على ما لا ينفع.
طالب علم يقضي كل وقته في قراءة ودراسة المسائل التي لا تُغنيه ولا تنفعه، ويهتم فقط بل يقضي كل وقته في حل المسائل البعيدة عن اختصاصه ، فبدل من الاهتمام ببرنامجه الدراسي يشتغل على دروس وعلوم هي بعيدة عنه. فكان الاوْلى أن يهتم الطالب بدروسه لسنته الدراسية وأن يهضمها بدل الاشتغال على مواضيع لا ترتبط باختصاصه، مثل أن يشتغل طالب الفيزياء بقضايا السياسة والجدل . وهذا لا يعني أننا ضد المطالعة واكتساب المعرفة الثقافية ولكن يجب أن لا نهدر وقت الدراسة اللازم للدروس المفروضة علينا.
مثال آخر، مؤمن متدين يضيع وقته في الجدالات والنقاشات حول مسائل عقائدية صعبة ومجردة ويستعيد قضايا النقاش الذي كانت بين المعتزلة والاشاعرة واهل السنة، وبدل أن يتوجه هذا المتدين إلى التقرب إلى الله بالنوافل وحفظ القرآن وتربية النفس وتعلم المسائل البسيطة كفرائض وسنن الوضوء وأداء الصلاة على نحو كامل التي تنفعه في علاقته مع الله، نجده يشغل فكره بمسائل فلسفية وقضايا تاريخية ترهق ذهنه وتضيع وقته. فهذه القضايا للمتخصصين من الباحثين وليس لكل الناس . للأسف نجد الكثير من الذين يحوزون على شهادة دكتوراه في مجال من المجالات ولكن لا يعرف عن الصلاة إلا حركات آلية وكلمات يكررها ويُنقص ربما الكثير من واجباتها وشروطها.
ومثال آخر أكثر شيوعا موجود بكثرة في حياتنا الاجتماعية وهو الانسان الذي يشتغل بقضايا وبحياةالناس ولا يشتغل بحياته الخاصة ، ينتظر فقط أخبارهم السيئة والحسنة وينقلها ويشيعها بين ابناء حيه وقريته، يكثر النصح والانتقاد في حديثة مع اصدقائه حول هذه الاخبار وهو في ذلك يتناسى حياته الخاصة المليئة بالنقائص. ولو كان هذا الشخص يحرص على ما ينفعه لما اشتغل على حياة الناس.
ويكثر عدم الحرص على ما ينفع عندما نتصفح صفحات الفايس بوك والانستغرام واليوتوب، فنقضي ساعات طويلة في تتبع اخبار المشاهير والمؤثرين تقدر بالساعات الطوال من النهار، ولا نخرج في النهاية بأية فائدة.
أما بالنسبة للدول فنجد عدم الحرص على ما ينفع ، تقوم مظاهره في تضييع الجهود والأموال على مشاريع لا تدرّ على الامة بأي فائدة كالإكثار من البذخ والتزيينات والبروتوكولات والمهرجانات الغنائية وبناء النُصب المُخلدة، وكان الأولى أن تتوجه هذه الأموال إلى التنمية والضرورية للشعب. كتوفير الماء والسكن والتعليم..
ولما كان الانسان في حقيقته هو جوهر وكائن لا يعيش إلا في الزمان وبالزمان فإننا يمكن القول:
أنّ الوقت الذي يمر في الحياة ولا يُنتفع به هو وقت ميت وفي حكم العدم
أنّ الدقائق التي لا يُتعلم فيها فضيلة ولا يُكسب فيها حسنات، هي دقائق أحق بالندم
أنّ الساعات التي تُقضى في تتبع أخبار الناس هي ساعات عدوّه للانسان.
كل زمن لا ينمو فيه الانسان من حيث الفضيلة والاخلاق يستحق أن يموت.
وحده الزمن الذي يُخلّد بذكر الله سيقى خالدا، كل زمن يترك فيه تأثيرا على النفس والآخرين هو الزمن الخالد.
ولما كان الموت هو توقف الزمان عن الانسان، لهذا فالأجدر أنْ نشتغل على هذا الزمن الذي بأيدينا قبل أن يتوقف نهائيا.
ولكن ماذا يعني أن اشتغل على ما ينفعني؟
يعني أن اهتم فقط بما ينفعني في الدنيا والآخرة، فالأهم أوْلى من المهم، والمهم أوْلى من العادي، والعادي أوْلى من التافه.
بعبارة أخرى: نشتغل على الضروري من حياتنا والأهم ثم الاقل والاقل، وإذا ما بقي لدينا وقت لا بأس أن نعطى لحياتنا فسحة من المرح من غير مضرة للآخرين وبعلاقتنا بالله.
لقد كان من أهم اسباب تفوق الولايات المتحدة الامريكية ، وصدراتها للعالم اليوم، فلسفتها البرجماتية التي تقوم على الابتعاد عن الميتافيزيقا والجدل والقضايا المثالية ومن ثمة الانخراط في فلسفة العمل والفعل، أي لا تكون الفكرة صحيحة عند الامريكي إلا إذا كانت نافعة وجالبة للمصلحة أي الحر على ما ينفعهم من الناحية الدنيوية.
والجدير بالمؤمن المسلم أن يحرص على ما ينفعه من أمور الدنيا والدين ليتفوق على الامريكي الذي يقتصر فقط على امور الدنيا.