لا شك أنّ كل شخص في هذا العالم يبحث عن السعادة، يبحث عن فرح ما أو أفراح في هذه الحياة. وسبب هذا النزوع إلى البحث عن السعادة كون فطرتنا تنفر بطبيعتها من الألم والتعاسة. هذه هي الخِلقة الإنسانية مفطورة على حب الفرح . يثبت هذا قوله تعالى في سورة هود: «وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي ۚ إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10)
البحث عن نيل السعادة يجعل الواحد منّا يبحث عنها في كل المسالك، يجرّب شتى الطرق التي يتوهم أنها تؤدي إليها لنيلها والقبض عليها مرة واحدة. ولكن مع ذلك لا يجدها. بل وترى البعض يبذل في سبيلها النفس والنفيس وكل غالي وثمين لكي يتأتّى له معانقتها إلى الأبد بغير فراق.ولكن، ينتهي به المطاف في النهاية إلى العجز والاستسلام. وقد يدرك أحدهم بعضها ولكن لا يُدركها كلها. هكذا يستمر ويظل الواحد منّا طوال العمر باحثا عن هذه القيمة المعنوية التي يُسميها البعض: سعادة والبعض الآخر فرحا ولكن في النهاية نتأكد ونتيقن أنّنا لن نعثر عليها وتذهب جهودنا ومساعينا هباء.
لكن هذه التي نسميها "سعادة" أيمكن أن تكون شبحا أو جسما ضبابيا لكي لا تٌمسك؟ الجواب بالتأكيد: السعادة ليست جنية أو ملاكا أو طيفا سماويا ماورائيا.إذن، ماذا تراها تكون؟ هل هي شعور نفسي داخلي يسكن في داخل أدمغتنا وقلوبنا وتتميز بالتقلب والتبدُّل؟. ما هذه السعادة التي يلهث وراءها الجميع فلا يعثرون عليها؟
ما هذا الشيء الذي يفكِّر فيه الناس ليلا ونهارا، وتسكن رغبتهم فيه حشاشة قلوبهم ويتمنّع مع ذلك من الإتيان إليهم؟ ما هذه القيمة المعنوية التي من أجلها قطع الناس البحور بقوارب الموت إلى ضفاف دول غنية وعرّضوا بذلك حياتهم لخطر الموت -ومنهم من قد مات بالفعل- وإن سألت هؤلاء الذين نجوا من الغرق أو الذين قطعوا البحور بجوازات رسمية لقالوا لك: إنّما أردنا البحث عن الفرح والسعادة.
لا شك أننا سمعنا عن شخص ما بذل لأجل أنْ ينال وظيفة أو ترقية أو لكي يحصل على مشروع اقتصادي...الوقت والجهد وسهر الليالي وأصابه الهم وربما يكون مما تنازل عن أخلاقه ومبادئه لأجل تحصيل مراده. هذا الشخص إنّ سألناه: لماذا تفعل كل ذلك؟ لأجابنا بغير تردد: إنّه يريد تحقيق السعادة ولا يهمّه طبيعة الطريق الذي يسلكه للوصول إليها.
لا أحد ينكر أنّ المال هو الذي يوفِّر الحاجيات المختلفة للإنسان وله نصيب في تحقيق الراحة والهدوء، إذْ تكف النفس عن التفكير بما ينقصها وتكون أبعد من الوقوع في أغوار الهمِّ والحزن. إنّ النفس مع توفر الحاجيات المادية تكون هادئة وغير منشغلة بهموم التفكير ، فإنّ الذي لا يملك مسكن لا يمكن أنْ يكون مطمئنا، كما أنّ الذي لا يملك قوتا لعياله لا يمكن أنْ يكون هادئ البال. فهذه الأشياء المادية لها نصيب وافر في تحقيق الهدوء والاطمئنان ولا أحد ينكر ذلك إلا من كان ذو منزع صوفي زاهد.
لكن تحصيل السعادة وامتلاء النفس بالفرح على نحو حقيقي وعميق لا يكون عبر طريق المال ولا المنصب ولا السلطة. فليست هذه الأشياء هي التي تحقق السعادة والفرح ولا يحتاج في البرهنة على ذلك الكثير من الحجج والأدلة.
فالواقع المعيش يثبت بما لا يدع مجالا للشك أنّ البعض من نعرفهم أو من سمعنا عنهم أنّ ملكيته لكل شيء في حياته لم يجعله سعيدا، ولا شعر في نفسه بالسعادة التي كان يتوق إليها قبل أنْ يُوفّر هذه الأشياء المادية.بل، نذهب بعيدا في القول: أنّ أجمل اللحظات فرحا في حياة بعض الناس لمّا كانت حياتهم خالية من كل الماديات، أي عندما كانوا اقل امتلاكا للأشياء المادية .
ولما لا؟ فقد تكون أجمل اللحظات التي أمضيتها في حياتك هي تلك التي كانت خالية من المشاغل المادّية، أو هي تلك التي لم تكن تملك فيها ولا دينارا واحدا ولإثبات هذا القول يكفي منك رحلة قصيرة في داخل ذاكرتك لتتأكد من ذلك.
ومثل تلك اللحظات السعيدة قد نجدها في الطفولة، أو في بعض لحظات العمر اليافع، والغريب أنّ استعادة زخم تلك اللحظات في الزمن الحاضر غير ممكن، لأنّ تلك اللحظات لها شروطها الخاصة بها. فالمتعة التي كنت تجدها أنت وصديقك في حديثكما في الماضي لا يمكن أنْ تتحقق في الحاضر . والجولات السياحية التي كنت تقوم بها بمفردك أو مع أصدقائك، فقدت من جاذبيتها في الحاضر.
اللحظة السعيدة: هي لحظة نادرة من عُمرِ الإنسان وكل لحظة لا تُشبه الأخرى لهذا من الصعب استعادتها ولو حققنا جميع شروطها.
هل يمكن استعادة مشاعر حب شعرت بها إزاء زوجتك لأوّل مرّة؟. هل يمكن استعادة لحظة فرح نجاحك في مسابقة التوظيف لأوّل مرة؟ هل تستطيع أنْ تعيش مرّة أخرى مشاعر التعرف على المكان بسبب جولة قمت بها مع صديقك لمدينة أو لحقول في الريف؟ هل يمكنك استعادة زخم الحياة الذي عاينته في فترة مراهقتك؟ وتلك الأحلام المصاحبة له واندفاعاته وطيشه؟ هل يمكن استعادة توهُّجِك في حب الحياة وإرادتك الصلبة والحديدية في تحقيق أمانيك؟ وتلك القهقهات التي كنت تضحكها في الماضي؟ هل بإمكان كل هذا أنْ يعود إليك؟ لا أتحدث هنا عن شيء اسمه الحنين إلى الماضي وجماله. بل، أتحدث عن طبيعة وحقيقة اللحظة الجميلة وشروطها الخاصة.
تلك اللحظات التي ذكرنا بعض أمثلتها من قبل، هي لحظات مملوءة بالفرح وبالسعادة. ولدت بسبب توفر شروطها: كمقتبل العمر، براءة التفكير وإخلاص النية، عدم فهمنا لتعقيدات الحياة، عظم الأماني والأحلام المصاحبة لنا، براءة تصرف الاصدقاء.....ألا ترى معي: أنّ هذه اللحظات السعيدة لم تتعّلق بالمال ولا بتوفر الأشياء المادية وإنما هي شعور نفسي داخلي. يمكن القول بدون أدنى شك أنّ الفرح هو شعور داخلي يقوم بداخل النفس غير متعلق بالمال.
لا أحد يستطيع أنْ يشترى لحظة سعيدة فلو امتلك أحدهم ما في العالم من: ذهب، وفضة، ومليارات. وأراد استعادة تلك اللحظات التي ذكرناها إلى حاضره لكان ذلك مستحيلا. لأنّ لحظة الفرح هي: لحظة فريدة ويتيمة وكل لحظة فرح لا تُشبه الأخرى.
وهذا يعني أنّه لو امتلكت كل ما في العالم من ثروات ونفسك لم تكن مهيّأة للفرح وللسعادة، فإنّ هذه الأشياء المادية لن تُشعرك بها، لأنّ العائق يكمن في الداخل. في مقابل ذلك، لو كانت تنقصك الكثير من الحاجيات وكنت تمتلك فن رؤيتك للأشياء وتعرف حقيقتها ومنزلتها لحصلت على سعادة لا يشعر بها الملوك في قصورهم. لأنّ الأمر متعلق: بكيفية تقييمنا للأشياء وبكيفية نظرنا إليها. وللأسف الشديد أصبح البعض منّا يرتجي السعادة من الآخرين ولا يفكر في تحقيق شروطها في نفسه، كأنْ ينتظر تقديرا من الناس كونه يمتلك سيارة مرسيدس أو كونه يشغل منصب سامي. وكأنّه بهذا يعلن صراحة أنّ ليس له قيمة من دون هذه السيارة وبغير هذا المنصب. ولا شك أنّ هذا الشخص سوف يشعر بكآبة حادّة عندما يخسر وظيفته أو عندما يفقد سيارته. لأنّه ربط سعادته بتقدير الناس له وهو مع السيارة، أو في ذلك المنصب. وليس بتقديره لذاته ولشخصه.
السعادة عندما يتم ربطها بالأشياء المادية سوف تبقى رهينة لبقاء أو لزوال هذه الأشياء. والإنسان هو في الأصل أعلى شأنا وقيمة من الأشياء جميعا. ولكن البعض منا، يريد أنْ تُعلى قيمته ويصعد شأنه مع الأشياء وبها. والحق يقال: أنّه ليست الأشياء هي التي تجعلك سعيدا ومُقّدّرا بين الناس. بل ذاتك وتفكيرك هو الذي يجعلك سعيدا ويمنحُك تقديرا عندهم. والناس صنفان: الصنف الأول هو الذي ينتظر سعادته من تقدير الناس له بما يمتلكه من أشياء وما يشغله من مناصب. أما الصنف الثاني فهو الذي يطلب السعادة بتحقيق شروطها النفسية والفكرية إذْ يأخذ سعادته من خلال فن تقديره لنفسه وللأشياء.
ولكن ما علاقة الفرح بالإرادة الفاعلة؟ لا شك أنّ الفرح هو الذي يدفع الإنسان للتفاعل الايجابي في هذا العالم. فالحزن مرتبط دائما بالانكماش على الذات وبالتقوقع عليها. أما الفرح فهو الذي يدفع الإرادة للنشاط والعمل والإبداع. الفرح يجعلك تغير العالم والحياة من حولك، أما الحزن سيجعلك متقوقعا حول نفسك. ذلك انّه كلّما كنت فرحا ستتعامل في العالم بنشاط وبمرح وبتفاؤل وتؤثر فيمن هم حولك وتدفعهم للنشاط والحيوية أما الحزين فهو عالة على نفسه وعلى محيطه وكلامه مثبّط للجميع.
والجسم الإنساني يخضع هو أيضا لمشاعر الفرح إذ يفرز هرمونات السعادة التي تدفعه للحركةوالنشاط، بينما الحزن يجعل الجسم خاملا وكسولا ومتثاقلا. والمؤمن في هذه الحياة عليه أنْ يطلب سُبل الفرح الحق بكل قوّة. وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تنهي النبي عليه الصلاة والسلام،عن الحزن. «ولا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (آل عمران: 139). يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ﴿٤١ المائدة ﴾وآية: "وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿٦٥ يونس ﴾. وذلك ما يسببه هذا الشعور في موت وانطفاء الإرادة. والإرادة كدافعية داخلية تزيد وتنقص تبعا لمشاعر الفرح والحزن حيث يمكن تمثيلهما: بنهرين بلونين مختلفين أحدهما ينبت شجرة الإرادة والآخر يُميتها