Anne Saxton

الرسالة الأولى ما بعد الأخيرة 

============

صغيرتي العزيزة ،

الكون كله لا يتسع لشوقي لك ، مساؤك خزامى و فرح 

لقد دفعني أصدقائي اليوم للخروج و التسكع معهم ، ارتديت القميص الخمري الذي تحبين ، لكن لونه اليوم بدا داكنا و كئيبا لم ينسجم بطريقة جميلة مع وجهي الأصفر و لحيتي المشعثة ! 

هل كنت من قبل فقير الجمال و باردا كما أنا اليوم ، إذن كيف شغفت بي ؟ 

_ هذا سبب قوي آخر .. يدفعني لبكاء رحيلك لما تبقى من عمري _ 

رميت جثتي داخل السيارة و مطر خفيف يتكاثف على الزجاج ،و فيما تجوب السيارة الشوارع ببطء ، مارست لعبتك الحمقاء القديمة ، لقد أغمضت عيني جزئيا و رحت أنظر إلى الأضواء على جانبي الطريق ، و إلى لافتات الأسواق المضيئة الملونة ، و الغبش يغطيها كان ذلك ممتعا حقا ، أن أرى جمال الأشياء المبهج و يبقى في عقلي سؤال يشاغب و يملؤني بالفضول ترى ما هو شكلها الحقيقي ؟

لكني لن أرغب بعد الآن بمعرفة أي شيء عن قرب و الإمعان فيه بعينين مفتوحتين عن آخرهما ، لأن رسوخ انطباعات هذه الأشياء داخلي ثم انتزاعها بسبب فراق لئيم يعادل موتا صغيرا آخر .. 

بالمناسبة ، سأبوح لك بسر ، هل تذكرين عندما كنت أوبخك فيما تجمعين جفونك و تمارسين هذه اللعبة ؟حسنا وبختك آنذاك لأني كنت أحب النظر إلى صفحة عينك الصافية في أضواء الليل ، صفحة عينك التي كانت تتسع لسرب من النوارس و الأسماك الملونة ، و صيادين يجلسون على امتداد الضفاف ، كنت أعشق النظر إليهما لكني لسبب أجهله لم أخبرك ذلك ،

ربما لأتوغل الآن في تأنيب نفسي و الندم أكثر . 

فيما كنت أرتشف القهوة مع أصدقائي سمعت صوت موسيقا حية ، نهضت من مكاني و تتبعت الصوت و إذ به محل لبيع الأدوات الموسيقية ، يتربع في صدر المحل بيانو أسود اللون ، جذاب اللمعة ، جميل حد البهجة ابتسمت ملء شدقي و تقدمت نحوه ، كان ثمة كتب بجانبه فتحت أحدها و قلبت صفحاته ، كان كتاب نوتات موسيقية يشبه كما أعتقد ما أشرت إليه في يوم و قلت لي : 

" تسقط النوتات المكتوبة .. يعيش السماعي و الإحساس " 

وضعت كفي الضخمة على لوحة المفاتيح و حركتها .. 

المفتاح الخشبي الذي ضغطت عليه بإصبعي طرق باب الدمع في عيني و لم يطرق وتر النحاس ، انحدرت من عيني دمعة كبيرة ساخنة و مشطت القشعريرة جسدي ، صوت البيانو أعاد أجواء وجودك في حياتي بكل

تفاصيلها ، تقدم صاحب المحل نظر إلي بإشفاق و عزف قطعة رقيقة على البيانو ، لا أتذكر أنك أديتها سابقا لكني أسمعك الآن تدندنين لحنها من المطبخ ربما أو من شرفة بيتنا ، كيف لم يخطر في بالي أن أسجل صوتك فيما تغنين لفيروز "يا حلو شو بخاف ضيعك " و لم أسجل أسرارك الصغيرة و أفكارك الأكثر جموحا و جنونا عندما بحت بها بصوت ملون ماكر ؟! 

فجأة استحضرتك كاملة بجواري، بحرارة جسدك ، و عطرك ، بقدميك العاريتين ، مرحة شهية الملامح ، 

كهاربة من قبيلة قديمة و منسية ، خرقت جدار الزمان و رقعة المكان و اندست هنا بكامل غرابتها ،

تقفين بقدمين حافيتين تثرثران دون توقف : 

جئت من البعيد .. و إلى البعيد سأمضي ، فلا توطن نفسك على السكن في روحي ! 

نظرت طويلا إلى وجهك و ابتسامتك العذبة الهادئة ، أطلقت ذراعي في الهواء لكي أجمعك إلى صدري ، لكن الموسيقا توقفت ! 

و وجدت نفسي مسمرا مبتسما ببلاهة ، مطلقا ذراعي في الهواء ، يرمقني الناس باستنكار و إشفاق .. 

كنت وحيدا و غريبا كظل تملص منه صاحبه في الزحام .. و فر بعيدا . 

جمعت ذراعي إلى جسدي و بخطوات ضيقة سريعة خرجت مطرقا من المتجر ،

و لم أنضم لأصدقائي بعد ذلك ..

حلوتي ؛ أعلم أن الهروب منك صعب بل مستحيل و كل الأشياء تذكرني بك دون أن تذكر اسمك ؛ 

القصائد الحزينة و القوافي المكسورة ، ثقل الوقت و تعب الروح ، توحش الليل و الإحساس بالخواء ، 

أعلم أن الهروب من الساكن فينا وهم ، أين أهرب و كل الطرق تفضي إليك ، 

و منتهى كل خيال وجهك ! 

لو أنك من هناك _ هناك البعيد العالي _ تهطلين مطرا و أنا الأرض ، 

تنفرطين لؤلؤا و أنا خيط العقد ، 

لو أنك تسرين مع الريح تعصفين بي و تتغلغلين ، أنا الشجرة !

لو أنك من هناك تسمعين النداء أنا الصوت ، و أنا الصدى .. 

لو ترجعين ! 

لو ليوم واحد ترجعين .. . 

المخلص لك حتى نهاية الأزمان : إليوشا .

منذ 24 دقيقة