الرسالة الأولى ما بعد الأخيرة
============
صغيرتي العزيزة ،
الكون كله لا يتسع لشوقي لك ، مساؤك خزامى و فرح
لقد دفعني أصدقائي اليوم للخروج و التسكع معهم ، ارتديت القميص الخمري الذي تحبين ، لكن لونه اليوم بدا داكنا و كئيبا لم ينسجم بطريقة جميلة مع وجهي الأصفر و لحيتي المشعثة !
هل كنت من قبل فقير الجمال و باردا كما أنا اليوم ، إذن كيف شغفت بي ؟
_ هذا سبب قوي آخر .. يدفعني لبكاء رحيلك لما تبقى من عمري _
رميت جثتي داخل السيارة و مطر خفيف يتكاثف على الزجاج ،و فيما تجوب السيارة الشوارع ببطء ، مارست لعبتك الحمقاء القديمة ، لقد أغمضت عيني جزئيا و رحت أنظر إلى الأضواء على جانبي الطريق ، و إلى لافتات الأسواق المضيئة الملونة ، و الغبش يغطيها كان ذلك ممتعا حقا ، أن أرى جمال الأشياء المبهج و يبقى في عقلي سؤال يشاغب و يملؤني بالفضول ترى ما هو شكلها الحقيقي ؟
لكني لن أرغب بعد الآن بمعرفة أي شيء عن قرب و الإمعان فيه بعينين مفتوحتين عن آخرهما ، لأن رسوخ انطباعات هذه الأشياء داخلي ثم انتزاعها بسبب فراق لئيم يعادل موتا صغيرا آخر ..
بالمناسبة ، سأبوح لك بسر ، هل تذكرين عندما كنت أوبخك فيما تجمعين جفونك و تمارسين هذه اللعبة ؟حسنا وبختك آنذاك لأني كنت أحب النظر إلى صفحة عينك الصافية في أضواء الليل ، صفحة عينك التي كانت تتسع لسرب من النوارس و الأسماك الملونة ، و صيادين يجلسون على امتداد الضفاف ، كنت أعشق النظر إليهما لكني لسبب أجهله لم أخبرك ذلك ،
ربما لأتوغل الآن في تأنيب نفسي و الندم أكثر .
فيما كنت أرتشف القهوة مع أصدقائي سمعت صوت موسيقا حية ، نهضت من مكاني و تتبعت الصوت و إذ به محل لبيع الأدوات الموسيقية ، يتربع في صدر المحل بيانو أسود اللون ، جذاب اللمعة ، جميل حد البهجة ابتسمت ملء شدقي و تقدمت نحوه ، كان ثمة كتب بجانبه فتحت أحدها و قلبت صفحاته ، كان كتاب نوتات موسيقية يشبه كما أعتقد ما أشرت إليه في يوم و قلت لي :
" تسقط النوتات المكتوبة .. يعيش السماعي و الإحساس "
وضعت كفي الضخمة على لوحة المفاتيح و حركتها ..
المفتاح الخشبي الذي ضغطت عليه بإصبعي طرق باب الدمع في عيني و لم يطرق وتر النحاس ، انحدرت من عيني دمعة كبيرة ساخنة و مشطت القشعريرة جسدي ، صوت البيانو أعاد أجواء وجودك في حياتي بكل
تفاصيلها ، تقدم صاحب المحل نظر إلي بإشفاق و عزف قطعة رقيقة على البيانو ، لا أتذكر أنك أديتها سابقا لكني أسمعك الآن تدندنين لحنها من المطبخ ربما أو من شرفة بيتنا ، كيف لم يخطر في بالي أن أسجل صوتك فيما تغنين لفيروز "يا حلو شو بخاف ضيعك " و لم أسجل أسرارك الصغيرة و أفكارك الأكثر جموحا و جنونا عندما بحت بها بصوت ملون ماكر ؟!
فجأة استحضرتك كاملة بجواري، بحرارة جسدك ، و عطرك ، بقدميك العاريتين ، مرحة شهية الملامح ،
كهاربة من قبيلة قديمة و منسية ، خرقت جدار الزمان و رقعة المكان و اندست هنا بكامل غرابتها ،
تقفين بقدمين حافيتين تثرثران دون توقف :
جئت من البعيد .. و إلى البعيد سأمضي ، فلا توطن نفسك على السكن في روحي !
نظرت طويلا إلى وجهك و ابتسامتك العذبة الهادئة ، أطلقت ذراعي في الهواء لكي أجمعك إلى صدري ، لكن الموسيقا توقفت !
و وجدت نفسي مسمرا مبتسما ببلاهة ، مطلقا ذراعي في الهواء ، يرمقني الناس باستنكار و إشفاق ..
كنت وحيدا و غريبا كظل تملص منه صاحبه في الزحام .. و فر بعيدا .
جمعت ذراعي إلى جسدي و بخطوات ضيقة سريعة خرجت مطرقا من المتجر ،
و لم أنضم لأصدقائي بعد ذلك ..
حلوتي ؛ أعلم أن الهروب منك صعب بل مستحيل و كل الأشياء تذكرني بك دون أن تذكر اسمك ؛
القصائد الحزينة و القوافي المكسورة ، ثقل الوقت و تعب الروح ، توحش الليل و الإحساس بالخواء ،
أعلم أن الهروب من الساكن فينا وهم ، أين أهرب و كل الطرق تفضي إليك ،
و منتهى كل خيال وجهك !
لو أنك من هناك _ هناك البعيد العالي _ تهطلين مطرا و أنا الأرض ،
تنفرطين لؤلؤا و أنا خيط العقد ،
لو أنك تسرين مع الريح تعصفين بي و تتغلغلين ، أنا الشجرة !
لو أنك من هناك تسمعين النداء أنا الصوت ، و أنا الصدى ..
لو ترجعين !
لو ليوم واحد ترجعين .. .
المخلص لك حتى نهاية الأزمان : إليوشا .
منذ 24 دقيقة