وفي النهاية، الشعر يُخاطب الشخص والعقل والوجدان، لهذا يهتم بالجمال وأنْ يثير الأحاسيس ، وذلك من خلال الصور التعبيريّة والحسيّة.
المفاضلة بين الشعر والنثر :
يتميز الإنسان عن غيره من الخلائق بخاصية التعبير والتصوير. فهو يجيد فن التعبير عما يعتلج في نفسه وفكره من تصورات وخواطر وآراء، وتصويرها بعدة وسائل، أبرزها اللغة والكلام؛ وفي حالات أخرى نادرة يلجأ بعض الموهوبين والمبدعين إلى النحت والتصوير بالريشة...إلخ.
لكن تظل اللغة الفنية المكتوبة هي الأداة الفذة التي تخلد آراء أصحابها، وهذه اللغة الفنية الراقية من جهة السبك والنظم قد تكون شعرا وقد تكون نثرا. وقد احتدم الجدال منذ أقدم العصور، كما سجل ذلك أدباؤنا ونقادنا القدامى ، حول أي الفنين أسبق من الآخر من حيث الظهور ؛ وأيهما الأكثر تأثيرًا في السامعين والقارئين ، وأيهما الأنسب في تهريب الآراء نحو عالم الخلود ؟ لأن الإبداع هو محاولة لتهريب أجمل ما في روح وفكر الكاتب إلى الخلود والبقاء . فالمبدع يخشى أن تندثر بموته أفكاره وآراؤه فيلجأ إلى التعبير والعمل على حفظ ما دونه بأي وسيلة من وسائل الحفظ.
يذهب جماعة من الباحثين والدارسين والنقاد إلى أن النثر أقدم من الشعر ، وكان أكثر منه وأغزر مادة ، غير أن الرواة لم يحفظوا من النثر شيئا يذكر بالقياس إلى ما حفظوا من الشعر . لأن الوزن والقافية أعانا على حفظ الشعر وروايته ، بينما خلا منهما النثر ، فلم يحفظ منه إلا النزر اليسير ، وعلى هذا النحو أخذ القدماء يفاضلون بين الشعر والنثر ، ومضى ابن رشيق القيرواني مع غيره من النقاد القدماء في هذا اللون من المفاضلة ، فقدم الشعر لأن الوزن والقافية يجعلانه أشبه بالدر الذي ينتظمه العقد ، على حين يشبه النثر بالدر الذي لا نظام له .
بيد أنه ينبغي أولًا الوقوف أمام المقصود من لفظ أو مصطلح «النثر» في عرف النقاد ودارسي الآداب. إن النثر المراد ليس كل كلام لا ينظمه وزن ولا قافية فحسب. لأن هذا يجعله متداخلا مع الكلام العادي الذي يستعمله الناس في معاملاتهم وفي تواصلهم اليومي في الحياة العادية. أي ذاك الكلام الذي تقضى به الحاجيات. فهذا اللون من النثر لا يعني مؤرخ الأدب في قليل أو كثير إلا من زاوية محدودة منه ، لها صلة بلون آخر من الأدب هو «الأدب الشعبي».
إنما النثر الذي يعنى به النقاد والدارسون ومؤرخو الآداب هو النثر الذي يمكن أن يعد أدبا.. ذلك الذي يصح أن يقال إنه فن ، فيه مظهر من مظاهر الجمال ، وفيه قصد إلى التأثير في النفس، فالكلام المنثور إذا فقد هاتين الخاصيتين يصبح غالبًا من الكلام العادي أو المبتذل الذي لا تنطبق عليه بحالٍ لفظة النثر ، كما هو في عرف مؤرخي الآداب ، وفهم النقاد والباحثين والدارسين المتخصصين.
أيهما الأصل؟
كما يميل جمع من الدارسين والنقاد إلى القول بأن الشعر أقدم عهدًا من النثر ، وأنه أول مظاهر الفن في الكلام أو الحديث والتواصل ، لأنه متصل بالحس والشعور والخيال ، وهذه الملكات تكاد تنشأ مع الفرد . فالشعر إذن ينبعث عن الحياة الإنسانية انبعاثًا يوشك أن يشبه انبعاث الضوء عن الشمس والعطر عن الزهرة .
أما النثر فهو لغة العقل ومظهر من مظاهر التفكير، وتأثير الإرادة فيه أعظم من تأثيرها في الشعر، وتأثير الرؤية فيه أعظم من تأثيرها في الشعر أيضًا، فليس غريبًا أن يتأخر ظهوره وأن يقترن بمظاهر أخرى طبيعية واجتماعية لا يحتاج إليها الشعر.
وحجة هؤلاء في تقديم الشعر على النثر من حيث زمن الظهور هو : أننا لا نعرف أمة قديمة أو حديثة ظهر فيها النثر قبل الشعر. أو ظهر فيها النثر مع ظهور الشعر (أي في وقت مواكب) وإنما الذي نعرفه في تاريخ الآداب عامة أن الأمم تأخذ بحظها من الشعر قبل كل شيء ، وتنفق من حياتها عصورًا طوالًا يتطور فيها الشعر ، لكنها لا تكون جاهلةً للنثر في هذه المرحلة جهلًا تامًا، ونحن نرى ذلك مثلًا عند اليونان والرومان وحتى لدى الأمم الغربية الحديثة .
فهي كلها تغنت ونظمت الشعر قبل أن تعرف النثر بأزمان طوال ، وللقارئ أن يلتمس حقيقة ذلك من واقع الأمم والبيئات غير الراقية المعاصرة لنا ، فسيجد ويرى أمما بسيطة أو بدوية تتغنى وتنظم الشعر وليس لها من النثر حظ .
ولذلك نجد في كثير من الأقاليم والبيئات والريفية يظهر الشعر العامي باللغة العامية ، لكن النثر لا يظهر فيها إلا حينما تتعلم وترتقي في التعليم ، وتأخذ بحظها من الثقافة والفكر والتحضر.
فالنثر إذن حسب هذا الرأي متأخر وحديث العهد قياسًا بالشعر ، وهو لا يظهر ولا يقوى عادة إلا حين تظهر في الجماعة وتقوى هذه الملكة التي نسميها العقل ، وحين تظهر وتشيع هذه الظاهرة الاجتماعية التي نسميها الكتابة .
فالعقل يفكر ويروي ويحتاج إلى أن يعلن تفكيره وترويته ، والكتابة تمكنه من أن يقيد تفكيره وترويته ويعلمها إلى الناس . ولابد من أن تظهر آثار هذه «القوة المفكرة» التي نسميها العقل في الشعر قبل ظهورها في النثر ، حتى إذا ضاق الشعر بوزنه وقافيته عن تفكير العقل احتاج العقل إلى أن يتحلل في التعبير عن أغراضه من هذه القيود الشعرية من وزن وقافية ولغة خاصة ، واعتماد على الخيال .
ومن هذه الحاجة التي يشعر بها العقل حين يضيق بها الشعر يظهر النثر، فيعتمد العقل على لغة التخاطب وأساليبه ليتحدث إلى الناس، ثم ما يزال بهذه اللغة والأساليب يصلحها ويهذبها حتى ينشأ له فن جديد ليس شعرًا وليس لغة تخاطب ، وإنما هو شيء وسط بينهما، ويقوى هذا الفن شيئًا فشيئًا بمقدار ما يقوى العقل ويرقى حتى يتم تكوينه ، فإذا هو لغة التاريخ والفلسفة والدين، وإذا هو مظهر من المظاهر الأدبية المتميزة الراقية .
ولنا رأي
بعد هذا العرض الموجز لرأيين متباينين في مسألة الشعر والنثر وأيهما الأقدم ظهورًا من الآخر، يمكننا القول بأن ظهورهما متواكب ومتلازم ؛ وما من أمة طالعنا آدابها وفنونها إلا وجدنا من أبرز فنون التعبير لديها: الشعر والنثر معا.
وفي كل أمة في القديم والحديث، نجد أنصارًا وعشاقًا للشعر، كما نجد أنصارًا وعشاقًا للنثر، ولعل الفارق الوحيد أن الغلبة تكون لأحد الفنين في مرحلة معينة ، لكنها لا تستمر طويلا ، حتى تميل الكفة للثاني وهكذا... وإذا أردنا مثالًا على ذلك من تاريخ العرب أنفسهم، نجد أن الغلبة كانت للشعر طيلة العصر الجاهلي ، لكن الكفة رجحت لصالح النثر في صدر الإسلام والعصر الأموي ، ثم علا صوت الشعر من جديد خلال العصر العباسي الثاني على وجهٍ أخص ، وفي عصرنا هذا تراجع الشعر مرة أخرى ، وفسح المجال للكتابة النثرية الفنية بشتى أشكالها، كالقصة والخاطرة والرواية والمسرحية والمقالة والسيرة الذاتية...إلخ .
وسوف يبقى لكل من الشعر والنثر في كل عصر ودهر وبيئة ، عشاق ومنافحون ونوابغ ، فليست المسألة إذن مفاضلة بقدر ما هي تنوع فطري في بروز المواهب التي أودعها الله الإنسان .