قلبه مُعلق بأشياء بسيطة، قلّما تخذله. وُروحه ثقيلة مرحة، دائما ما تضحك. طريقه ضيق وواعر. خرج من مسكنه محاولًا تغيير العالم، لكن شئ من الحكمه أصابه، فأصبح يُحاول تغيير نفسه أولًا. حاجته الفطرية للإحتواء تُزيد من إلحاحها يومًا بعد يوم. ضعيف أمام أقدراه، وهو لا يخجل من ذلك. تمُر عليه لحظات ملحمية توشك أن تودي به، كغريق تتخبط يداه في الأمواج عسى أحدٌ أن يتسجيب. يرتبط بالناس كإرتباط مُختنق بآخر شهقاته.    

لم يعد يروق له النوم في جفن الليل، وتوقف عن التسكع في الشوراع أثناء النهار. يحن إلى الماضي بشغف، أكثر مما يفكر في المُستقبل؛ والشعور بالغربة لا يرتبط بمكان وجوده، فكأنه يتناسب طرديًا مع الكِبر ومرور الأيام. الآن لم يُعد قادرًا على التمييز بين مطعم القهوة التي إعتاد إحتسائها وبين غيرها، كل المعالم باتت باهتة. هنا، لا يشعر أنه مُتربط بشئ مُعين، أو موصول بشئ مُعين، كغُصن إقتطع من شجرة وأمسى على الأرض لا يعرف أين باقيه. 

كل يوم يمر عليه، يضع على كاهله مزيدًا من الأعباء، ويُحطم مجموعة من الأبواب الموصدة. لا يقسو على أحدٍ، إلا نفسه. دائمًا ما يسالها "ماذا فعلت في ثمانية عشر عام مضوا؟ " ولا يجد إجابة. يُصرٌّ على المحاولةٍ رغم عدم وجود الأمل. هنا، يسمع أدق الأصوات ويرى أبسط الأشياء، يسمع آنين الفؤاد، وطنين المصباح، وصوت زقزقة العصافير على بعد أميال وأميال، وحفيف أوراق الشجر، وقلقله المفتاح، ودوي الهواء، ونسيم الريح، وصرير القلم وخرير الماء وحتى عجيج المحيط وجفجفة الثوب الجديد. كل شئ يبدو قريبًا، كل المسافات زائلة. هُنا، يُعيد إكتشاف الأشياء، ونفسه من قبلهم.