نزل الغيث الرباني على مكة ، فروى الله به قلة من المضطهدين ، و قلة من أصحاب العقول الكبيرة و النفوس البريئة ، المتعطشة الى عالم أفضل ، و المتطلعة الى أفق أرحب ...
و منع الغيث عن كثيرين : عن المنتفعين من بقاء النظام القديم على ما هو عليه ، و عن المتعصببين لتلك العائلة و ذلك الفخذ ، المتكبرين على الحق الآتي من رجل من بني هاشم ، و منع الله الغيث أيضا ، عن الأتباع الضعفاء : أتباع المنتفعين ، و اتباع المتعصبين ...
و فرت القلة المؤمنة المضطهدة بغيثها الى " يثرب " ، الى المدينة التي تهيئت لنور الوحي فعرفت ب " المدينة المنوره " ...
و كما يحدث دائما ؛ حارب المتضررون من الأفكار الثورية بشراسة للحفاظ على عالمهم القديم المتآكل : المنافقون - الذين كاد أحد زعمائهم ،كما يروى ، أن يتوج ملكا - و اليهود - الذين طمعوا أن تكون الرسالة فيهم - و غيرهم ... و لكن زمان هؤلاء ، و أولئك ، كان قد ولى ، و باتت الارض لرسالة السماء عطشى ، فتشربت الغيث ، و اخضرت ... و أصبح النبات الغض الطري جميلا و صلبا ، فكثر أتباع الدين الجديد ، و كان منهم المؤمنون ، و منهم المنافقون ، الٱنتهازيون ...
و توفي الرسول الكريم - صلى الله عليه و سلم - و توفي صاحباه العظيمان : ابو بكر و عمر - رضي الله عنهما - و كانت وفاة عمر قتلا ، أكثر الناس حرصا على نشر العدل توفي قتلا ، كان اغتيال عمر - رضي الله عنه - اشارة عنيفة مبكرة - سبقتها اشارات أقل صخبا - لتمرد - و ربما لثورة مضادة - تتشكل في جسد المجتمع الجديد .
كانت الاموال قد فاضت بين ايدي العرب المسلمين ، فقد ورثوا تركة المغلوبين : الفرس و الروم ، و أصبح العرب سادة على السادة ، و اجتمعت أسباب الفتن : النعرات القبلية القديمة ، و تضارب المصالح التجارية ، و الغضب لملك عريق تهدمت أركانه ... و اشتعلت الحرائق ، و وصلت النيران الى عاصمة الخلافة الراشدة، فقتل عثمان ، ثم قتل خليفته علي ، رضي الله عنهما ...
و حاول المتصارعون "شرعنة" مطالبهم السياسية ، و تغطية اطماعهم المادية ، بنصوص دينية ، و سواء فعلوا ذلك بوعي ، او بدون وعي ، و سواء كانت هناك أسس دينية حقيقية لدعواتهم ، أم لم تكن ، فقد دخل الدين - أو أدخل - الى حلبة الصراع ، و اختلط الغيث الرباني الصافي، بوحل الرغبات، و الأهواء ،و النزاعات ...
الماء نفسه ، هطل مرة غيثا مغيثا ، فأحيا الأرض بعد موتها ، و استعمل مرات أخرى للإفساد في الأرض ؛ النص ذاته وحد العرب ، ثم استخدم لتفريقهم ، النص ذاته حارب به الرسول الكريم ، و صحبه العظام ، الإستغلال و الظلم ، ثم استخدم لتبرير الظلم ، أنها قصة تفاعل النصوص مع الواقع ، أو قصة : بصمة الواقع على جسد النص ...
ها هو " محمد عبده " - بعد قرون من الفتنة - يدعو الى اعادة قراءة النصوص ، الى إزالة النصوص المتراكمة فوق النص الاصلي ، ها هو يدعو الى " تجديد الدين " ، الى استخراج الماء العذب الصافي ، من وحل الحزبيات و الأهواء ... و ها هو تلميذه " محمد رشيد رضا " يسير على دربه ، حتى اذا انتقل المعلم الى جوار ربه ، ابتعد التلميذ قليلا عن دربه ، و تلقف " حسن البنا " الراية ، فابتعد بها اكثر ، ثم انتقلت الراية من يد الى يد ، حتى مزقتها يد التكفيرين ...
ما الذي جرى بين بداية القرن العشرين و منتهاه ؟ انه ذاته، الذي جرى بين بداية الدعوة الاسلامية حتى نهاية عهد الخلافة الراشدة ؛ انه عمل الزمان و المكان في النص ، انه التأويل و التحريف ، و الحذف و الاضافة حسب الحاجه ، حسب الحاله ، حسب السياق الاجتماعي الاقتصادي الثقافي ، لقراء النص ، أو لنقل - بقدر غير قليل من التهيب - : لمستغلي النص ! .
و هكذا يترقرق الماء مرة عذبا زلالا ، و كأنه(حديث عهد بربه ) ، و يغيض مرات فلا يكاد العطشى يجدونه ، فقد عكرته أهواء الناس ...
انه النص ذاته ، هو هو ، وصلنا كما نزل ، فتحول و تحور ،كما شاءت أهوائنا و أحوالنا ، تلطفنا فلطف ، و قسونا فقسا و عبس ... انه القرآن ذاته ، نص مقدس محفوظ ، عابر للزمان و المكان ، أما الفكر الاسلامي - أي القراءة البشرية للقرآن - فهو خاضع لقوانين الزمان و المكان ، فلا قداسة له ، بل قد يكون مدنسا .
انه النص ذاته نهل منه الحيارى ؛ الباحثون عن الحق بتجرد فهداهم الله ، و شرب من معينه الصافي من مزقتهم قسوة الحياة ، من خنقهم ثقل الكتل الإسمنتية ، و ثقب آذانهم هدير الآلات الفولاذية ، شرب منه هؤلاء المعذبون فهدئت نفوسهم ، و قرت عيونهم .. و هو النص ذاته الذي نسخ منه المنتفعون ما تعارض مع مصالحهم ، و ثبتوا فيه ما شاءت لهم أهوائهم ، فضلوا و أضلوا ...
هل هي اذن سطوة "حتمية" للواقع على النص ؟
هل هو إذن ، يأس من التغيير بواسطة الفكر ما دام الو اقع لا يتقبله ؟
كلا ، فرغم إيماني العميق بأن الواقع ترك - و لا يزال - ندوبا على جسد النص ، الا أن النص قادر بدوره على التأثير في الواقع ، و لكن ببطء شديد ... و اليوم ، مع كل نقطة دم تنزف باسم الرحمن ، مع كل برميل نفط عربي يباع باسم القرآن ، مع كل عائلة تهجر باسم محمد رسول السلام ، مع كل آهة و دمعة و صرخة ، يتسبب فيها الرافعون لرايات تحمل ختم النبوة ... أقول : مع كل جريمة جديدة ترتكب باسم الاسلام ، سيكفر المسلمون بهذه القراءات "المغرضة" المتطرفة للنص ، و يقبلون على قراءات "موضوعية" منفتحة ، تنهل من المعين الصافي للنص... و لكن هذه القراءات لن تفعل فعلها في الواقع ، الا اذا تغيرت "الشروط الموضوعية" التي أنتجت القراءات المتطرفة : العلاقات الاجتماعية البدائية ، الظلم السياسي ، الهوة الفظيعة بين الأغنياء و الفقراء ، التبعية للغرب - الراعي الرسمي للفكر السياسي الاسلامي بصيغته المعاصرة - ... اذا تغيرت هذه الشروط استطعنا بناء مجتمع متقدم متحرر مستقل ، يوظف النص توظيفا يخدم مصالح "الجماعة الوطنية" ...
و كما جاء في الغيث الرباني :
( ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم ) .