بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإن ربنا تبارك وتعالى يقول: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)، وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال ﷺ: (لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا)،  وقد أخرج أبو داود من حديث هانئ بن كلثوم قال: سمعت محمود بن الربيع، يحدث عن عبادة بن الصامت، أنه سمعه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "من قتل مؤمنًا فاغتبط بقتله، لم يقبل الله منه صرفًا، ولا عدلًا"، قال خالد: سألت يحيى الغساني عن اغتباطه بقتله، قال: "هم الذي يقتلون في الفتنة، فيقتل أحدهم فيرى أنه على هدى لا يستغفر الله منه أبداً"، وقد سكت عنه أبو داود والبيهقي، ورجاله لا بأس بهم، وفيه غرابة.

ولعظم ذلك -والله أعلم- كان أول ما يُقضى بين الناس يوم القيامة: الدماء، كما جاء في حديث ابن مسعود المتفق على صحته.

وقد ثبت عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما من قوله: (لزوال الدنيا أهون على الله من دم مؤمن)، وروى أبو داود وابن ماجه من حديث حماد بن زيد، عن أبي عمران الجوني، عن المشعث بن طريف، عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا ذر" قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، فذكر الحديث، قال فيه: "كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون البيت فيه بالوصيف؟ " يعني القبر، قلت: الله ورسوله أعلم -أو قال: ما خار الله لي ورسوله- قال: "عليك بالصبر -أو قال: تصبر-". ثم قال لي: "يا أبا ذر" قلت: لبيك وسعديك. قال: "كيف أنت إذا رأيت أحجار الزيت قد غرقت بالدم؟ قلت: ما خار الله لي ورسوله، قال: "عليك بمن أنت منه" قلت: يا رسول الله أفلا آخذ سيفي، فأضعه على عاتقي؟ قال: "شاركت القوم إذن" قلت: فما تأمرني؟ قال: تلزم بيتك" قلت: فإن دخل علي بيتي؟ قال: "فإن خشيت أن يبهرك شعاع السيف، فألق ثوبك على وجهك، يبوء بإثمك وإثمه"، وإسناده صالح، والمشعّث ليس بالمشهور، ومعناه صحيح، كما في القرآن العزيز، قال تعالى: (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك)، وله شواهد كثيرة من السنة.

وجاء عند أبي داود من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل)، وإسناده صالح، وقد جاء بهذا اللفظ أيضًا عند أحمد؛ وفيه: علي بن زيد بن جدعان وهو لا يُحتجُّ به، لكن يكتب حديثه، وجاء أيضًا في حديث عبد الله بن خباب عن أبيه عند أحمد وفيه رجل لم يسم.

فعلى من يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحذر غاية الحذر أن يتسبب في قتل مسلم، أو يشارك في ذلك، خاصة إذا كان المقتول من أهل العلم؛ كما حصل في ليبيا من قتل الشيخ نادر العمراني رحمه الله تعالى؛ الذي نحسبه من علماء المسلمين، فقتلوه ظلمًا وعدوانًا دون أدنى مراعاة لعلمه وشيبته، حتى أن من قتله لم يحسن القتل كما أمر رسول الله ﷺ في الحديث الصحيح، بل أطلقوا عليه وابلًا من الرصاص بلغت نحو الخمسين طلقة! ثم استمروا بإطلاق الرصاص بعد موته، ولاشك أن هذا أمر في غاية البشاعة، وقلما يفعل ذلك رجل عنده ذرة من إيمان أو عقل! فنعوذ بالله من ذلك!

ولا يخفى أن الإنسان إذا كان متهمًا بالردة عن الدين فإنه لا يُنَفَّذ فيه الحكم ابتداءً حتى يحاكم محاكمةً شرعية، فإذا ثبت عنه ذلك فإنه يستتاب بعد ذلك، ثم إذا لم يتب فإنه يُنَفَّذ فيها الحكم مع الإحسان في القتل كما جاءت بذلك النصوص، وأما أن يُقتل مسلمٌ بل عالم من أجل فتوى أصدرها فإن هذا مخالف للشرع والعقل والفطرة، ولا شك أن كل من قتل بريئًا فسيبوء بدمه عاجلًا أم آجلًا.

وأما قولهم أن "الشيخ رحمه الله يُضِلّ الناس"؛ فهذا يدل على جهل هؤلاء، وضيق أفقهم، ولا يخفى أن أهل العلم لم يزل يرد بعضهم على بعض، ويخالف بعضهم بعضًا؛ فلم يستبيحوا أذية إخوانهم بسجنهم، فضلًا عن سفك دمائهم!

وقد جاء في صحيح البخاري من حديث جرير، عن منصور، عن أبي وائل، عن عبد الله رضي الله عنه، قال: لما كان يوم حنين، آثر النبي صلى الله عليه وسلم أناسًا في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أناسًا من أشراف العرب فآثرهم يومئذ في القسمة، قال رجل: والله إن هذه القسمة ما عدل فيها، وما أريد بها وجه الله، فقلت: والله لأخبرن النبي صلى الله عليه وسلم، فأتيته، فأخبرته، فقال: "فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله، رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر"، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوذي فصبر، ولم يبادر في قتله، وهو المبعوث بالهدى ودين الحق.

وروى أبو داود من حديث حميد بن هلال، عن عبد الله بن مطرف

عن أبي برزة، قال: كنت عند أبي بكر، فتغيظ على رجل فاشتد عليه، فقلت: تأذن لي يا خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أضرب عنقه؟ قال: فأذهبت كلمتي غضبه، فقام فدخل، فأرسل إلي فقال: ما الذي قلت آنفا؟ قلت: ائذن لي أضرب عنقه، قال: أكنت فاعلًا لو أمرتك؟ قلت: نعم، قال: لا والله، ما كانت لبشر بعد محمد صلى الله عليه وسلم.

وروى البخاري من حديث الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "قدم عيينة بن حصن بن حذيفة فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته، كهولًا كانوا أو شبانًا"، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي، هل لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه، قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس: "فاستأذن الحر لعيينة فأذن له عمر"، فلما دخل عليه قال: هي يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى هم أن يوقع به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}، وإن هذا من الجاهلين، "والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافًا عند كتاب الله".

وروى البخاري من حديث أبي عوانة، قال: حدثنا عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سمرة، قال: شكا أهل الكوفة سعدًا إلى عمر رضي الله عنه، فعزله، واستعمل عليهم عمارًا، فشكوا حتى ذكروا أنه لا يحسن يصلي، فأرسل إليه، فقال: يا أبا إسحاق إن هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن تصلي، قال أبو إسحاق: أما أنا والله "فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخرم عنها، أصلي صلاة العشاء، فأركد في الأوليين وأخف في الأخريين"، قال: ذاك الظن بك يا أبا إسحاق، فأرسل معه رجلًا أو رجالًا إلى الكوفة، فسأل عنه أهل الكوفة ولم يدع مسجدًا إلا سأل عنه، ويثنون معروفًا، حتى دخل مسجدًا لبني عبس، فقام رجل منهم يقال له أسامة بن قتادة يكنى أبا سعدة قال: أما إذ نشدتنا فإن سعدًا كان لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية، قال سعد: أما والله لأدعون بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذبًا، قام رياءً وسمعة، فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه بالفتن، وكان بعد إذا سئل يقول: شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد، قال عبد الملك: فأنا رأيته بعد، قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنه ليتعرض للجواري في الطرق يغمزهن.

فهؤلاء أصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم يخالَفون فلا يعمدون إلى القتل وسفك الدماء كما يفعل هؤلاء الأغرار، فإنا لله وإنا إليه راجعون!

وقد كان الشيخ نادر العمراني رحمه الله –باعتراف قاتليه- يلقي دروسًا في السنة النبوية فيها دفاعٌ عنها، والأمر بلزومها والأخذ بها، وله مؤلفات نافعة مفيدة قد أجازه أهل العلم عليها، سواءً كان في المدينة النبوية أو في بلاد ليبيا.

وأما قولهم أنه خالف علماء السعودية؛ فيُقال لهم –تنزُّلًا-: هل كل من خالف علماء السعودية يُقتَل هذه القتلة الشنيعة؟! وهل كل من خالفهم يباح دمه وترويعه؟! هذا لم يقل به لا علماء السعودية ولا غيرهم.

ويقال لهم -تنزُّلًا أيضًا-: هل خالف الشيخ نادر مفتي المملكة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ؟ أم هل خالف هيئة كبار العلماء؟ وما هي المسائل التي خالفهم بها؟ فإنّا لم نعلم عن الشيخ نادر العمراني سوى بذله وجهوده في الذب عن السنة، والدعوة إلى الحق والهدى، نحسبه كذلك، والله حسيبه.

وعلى أهل العلم أن يقوموا بالمسؤولية الملقاة عليهم من قِبَل الله عز وجل، فينكروا هذه الجريمة؛ وهي سفك الدماء بغير حق، ويبينوا للناس مآلاتها، وأنها لا تخلِّف غالبًا إلا الشر والقتل وذهاب الريح والانقسام والتدابر بين المسلمين.

كما أطالب بإخراج الابن/ محمد عبد الله حويلات، وهو عضو الإفتاء في سرت، وأحسبه من أهل العلم والفضل، وقد اعتُقِل من قِبَل ما يسمى بـ "قوة الردع" في طرابلس، وقد كان اعتقاله منذ ثمانية أشهر، لم ير خلالها أهله ولا أولاده، فأي مذهب يجيز هذا الفعل بتغييب المسلم هذه المدة الطويلة دون علم أهله أو الإذن لهم برؤيته؟ بل حتى دون محاكمة شرعية لو وُجِد ما يستدعي هذا؟! فأحذرهم وأخوفهم بالله عز وجل أن يبوءوا بإثم أذيته، وليتقوا الله عز وجل ويبادروا بالإفراج عنه عاجلًا، وليعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتخذ سجنًا، وقد قال عياض في (ترتيب المدارك 2/166): وحكى التستري أن أبا المعافى سجنه والي المدينة العباس بن محمد في أمر رجع إليه، فكتب إلى مالك رحمه الله تعالى بشعر يقول فيه:

ألا أن عمر العلم في عمر مالك ... فلا زال فينا صالح الحال مالك

الأبيات. فما فرغ منها حتى رئي الحياء في وجه مالك، ثم أطرق فرفع رأسه وقال: إن الله فرض الفرائض، وجعل حد الزاني الرجم إذا أحصن، وجلد مائة إذا لم يحصن، وجلد ثمانين إذا قذف محصنة، وإذا سرق ما فيه القطع قطع، ولم أسمع الله حكم بالسجن في شيء من حدوده! فرجع ذلك إلى العباس، فأرسل إلى مالك ليسأله، فقال: اليوم بعد ثلاثة أشهر أرى أن يفتح عليه الباب وتستحله فيما مضى، فخلى سبيله. انتهى

واللهَ أسأل أن يجمع المسلمين على طاعته، وأن يُظهِر دينه، وأن يجنبهم الفتن.

عبد الله بن عبد الرحمن السعد

الأربعاء 23 صفر 1438