بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي شرّف عبادَه المؤمنين بعبادته، وصرف عن توحيده أهلَ الشرك لحكمته، يهدي من يشاء ويضلّ من يشاء، ومن يضلل اللهُ فما له من هادٍ، ومن يهدِ الله فما له من مضلّ، ولا يهلك على الله إلا هالك، أنزل كتابه حجةً على العالمين، وهدى للمتقين، فهو حبل الله المتين، فيه نبأُ ما كان قبلنا وخبر ما بعدنا وحكم ما بيننا، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبّارٍ قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله.

والصلاة والسلام على رسول الله وخاتم النبيين، أرسله الله رحمةً للعالمين، أنِ اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون! وعلى من آمن به واتبعه من الصحابة والتابعين، وعلى أتباعهم على منهجهم إلى أن تُقبض أرواح المؤمنين، أما بعد..

فلمّا كان من سنة الله سبحانه دفَاعُ أهل التوحيد والإيمان، لأهل الشرك والكفران، على مرّ العصور والأزمان؛ لم يزلْ في كلِّ حقبةٍ منها، مَنْ يُجادل الأنبياءَ وأتباعَهم عن كلِّ مَظْهرٍ من مظاهر الشرْك، وصورةٍ من صوره، سوّلها لهم الشيطان، {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر: 5].

وقال سبحانه: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا } [الكهف: 56].

وقال الله تبارك اسمه وتعالى جدّه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } [الأنعام: 112 - 117].

ولمّا كان الشرك مذمومًا أهلُه بالفطر والعقول والشرائع، كان أكثر المُرتكسين فيه والمتلطّخين بوحله، ينفون عن أنفسهم اسمَه، وينْأَون بجلودهم عن وسمه، وإنْ كان لهم من حقيقته القدْح المعلّى، ومن مسمّاه الحظّ الأوفى.

فهاهُم المشركون الأُوَل يزعمون أنّ توجّههم بأنواع القرب إلى أندادهم استشفاعٌ مرضي، وتوسُّل صحيح.

وهاهم عبّاد القبور والأضرحة، يسمّون شركَهم الأقبح زيارةً للقبور مسنونة.

وهاهُم المستغيثون بمن دون الله من المخلوقين في الملمّات، الصارفون إليهم أنواع القربات، يسمّون فعلهم توقيرًا للأولياء..

ولن يَعْدَموا من يحشد لهم أشباهَ الأدلّة من متشابه النصوص، من أدْعياء العلم والإيمان.

وليُعلمْ أنه ليس من شرط وقوع الإنسان في الشرك أن يتقحّمَه من كل أبوابه، أو أن يعبُد ما عبده أبو جهل وأمية بن خلف؛ بل يكفي في وصْمه بهذه السُّبة الشنعاء، والكبيرة النكراء، صرفُه عبادةً واحدةً لغير الله سبحانه، ولو كانت في أعين الناس صغيرةً حقيرة؛ فربُّنا أغنى الشركاء عن الشرك.

روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث العلاء بن عبدالرحمن بن يعقوب عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه".

فلابدّ للعبد المؤمن من تصوّر الشرك، وإدراك خطورته، ومعرفة أفراده وصوَره، والتي تتغيّر بمرّ السنين واختلاف الأنحاء.

ومتى ظنّ فردٌ أو جماعةٌ أنهم في غُنية عن الحديث عن الشرك، والخشية منه، والتحذير من وسائله أو أنّ لهم مناعةً تحول دون أذاه ودَرَنه، لقوة فهومهم، أو سعة علومهم، أو لحُسن سابقتهم وبلائهم، أو لانتسابهم، أو لأنسابهم، أو لأوطانهم، فليعلموا أنهم على هوّة الردى، وهم تحت سُكر الكِبْر والهوى..

وما لهم لا يخشون الشرك وقد خشيَه أئمة التوحيد والأنبياء الذين هدى الله وآتاهم الكتاب والحكم والنبوة، خشوه على أنفسهم وعلى ذرياتهم.

فهذا إبراهيم خليل الله عليه السلام، وهو من كسّر الأصنام بيده، وألقي في النار مستمسكًا بتوحيده، وهاجر في ذات الله فرارًا بدينه، يقول كما حكى الله عنه: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ..} [إبراهيم: 35]

ولذا كان إبراهيم التيمي رحمه الله يقول: "من يأمن من البلاء بعد خليل الله إبراهيم حين يقول: ربّ {اجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ}؟"

ماذا لو رأى التيميُّ أهلَ زماننا وهم يتهكّمون بدعاة التوحيد الخائفين من الشرك المحذّرين منه، ويجعلونهم غرضًا لأقلامهم! فلا إله إلا الله يفعل ما يريد.

بل إنّ هذا الخوف والوجل يجب أن يكون مع بُعد المجتمع عن الشرك وتجافيه عن أسبابه؛ فكيف إذا اقترب منه طائفة منهم! فكيف إذا تتابعوا على الشرك الأكبر، ودعوا إليه وزيّنوه وحسّنوه! فكيف إذا ألزم الملأُ والسادةُ والكبراءُ الناسَ به! فإلى الله نشكو حال أهل الإسلام في بلادهم.

فأقول بعد هذا -مستعينًا بالله-: إنّ "الديمقراطية" التي يُحكم بها في كثير من دول العالم اليوم، والتي يدعو إليها كفرةُ الشرق والغرب، ويرتضيها ما يُسمّى بـ"المجتمع الدولي" -ولا يرتضي غيرَها- شركٌ أكبر في التشريع والحكم والطاعة، وهي -بصورتها المتواضع عليها عالميًّا- مناقضةٌ للشهادتين، موجبةٌ لمن لم يتبْ منها الخلودَ في نار جهنم، فيجب على أهل الإسلام إنكارُها بما يستطيعون، وهي من الشرك الأكبر الذي جاءت الرسل بالبراءة منه ومن أهله وبغضهم وعداوتهم وجهادهم.

ولا يجوز الدخول فيها مطلقاً؛ لأن الحُكم فيها تحليلاً وتحريما لـ"الشعب" أو لأغلبية "النواب" وليس لله سبحانه، وهذا شرك أكبر، وليس بعد الشرك ذنبٌ، ولا فوقَه مفسدة.

ولو صدر منّي ما قد يُفهم منه خلاف ذلك، فإني في هذه الفتوى أبيّن اعتقادي في هذه المسألة العظيمة وأشرحه، وليس لأحد أن ينقل عني خلافه.

قال الله تعالى :{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف من الآية40]. وقال تعالى :{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إليك..} [المائدة من الآية49]. وقال تعالى :{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ..} [الشورى من الآية21]. وقال تعالى :{..وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف من الآية 26].

وقال تعالى : {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة31].

والواجب على المسلمين إقامة الدين، وعدم التفرق فيه، والحكمُ بما أنزل الله، وعدم الصدّ عنه، واجتنابُ الطاغوت والكفرُ به.

قال الله تعالى :{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ..} [الشورى من الآية13].

وقال تعالى :{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء61].

وهذا إنما هو في حق من شرّعها واختارها ودعا الناس إليها، وأمّا من كان لا يريدُها ودخلها متأوّلاً فأنا لا أقصدهُ فيما تقدّم، ولكن لا أُجيز له الدخول فيها، وهو على خطر كبير!

فإن من أوجب واجبات الوقت على أهل العلم بل وعموم المسلمين، إنكارُ هذا الشرك المُعلَن، والبراءة منه ومن أهله الرافضين حكم الإسلام في دساتيرهم البغيضة، الممتنعين عن الإذعان لشريعة الرسول صلى الله عليه وسلم، لا مجالستهم مع السكوت عن كفرهم، ناهيك عن الثناء عليهم وتسميتهم إخوة.

ولئن كان شركُ عبّاد قباب الأضرحة، مقصورًا على فاعله والراضي به؛ فإنّ الشركَ الذي يكون تحت قباب البرلمانات، يُلزَم به المسلمون ويُفتنون عليه وهم في بيوتهم، فتطال قراراتُه المسالمين في الدور، والحيّضَ  وذواتَ  الخدور.

وإنّ تصويرَ نازلة من النوازل لا يكون بحسب ما تشتهيه أنفسُ أهل الإيمان أو يتمنّاه المصلحون؛ إنما هو توصيفٌ لحال مشهودة أو نقل مصدّق.

والحكم هو على نازلةٍ عمّت وطمّت في بلاد المسلمين، وليس حكمًا على نوادر المسائل وشواذّ الفرائد.

ولئن كان إيراد غريب المسائل المستبعدات في الفروع الفقهية مذمومًا عند السلف؛ فكيف إذا توُسِّل به إلى إحياء الشرك، أو تسويغ بقائه ظاهرًا معلنًا بين ظهراني المسلمين!

إننا حين نتكلم عن "الديمقراطية"، لسنا نتكلم عن بدعة كلاميّة أو نظريّة فلسفية، موضعُها بطون الكتب ومجالس المناظرة، يعجز أكثرُ العامة عن تصوّرها؛ بل هي حكم قائم بجيوشه وعساكره.

وهل مفسدة تسلّط الحاكم الكافر على بلاد المسلمين إلا هذه! فانظر كيف توكّل المنتسبون إلى الإسلام عن الكافرين بشرّ وكالة.

ومع هذا كلّه فالواقع المعاصر يشهد بأنّ من سلك هذه الطريق الشركية أو قاربها من أحزاب منتسبة إلى ما يسمى بـ"العمل الإسلامي"، لم يظفروا بنصيب في الحكم، ولم يجنوا –غالبًا- ثمرةً من دين أو دنيا، ولم يرتضِهم الكافرون والمنافقون ولم يمكنوهم.

فليحذر الذين يجادلون عن هذا الشرك أو يسوغونه أن يهونون من شأنه.

قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} [النساء: 105 - 109].

فإذا تقرّر هذا فليُعلم أنه يجب على المسلم أن يجانب الشرك وأهله، وأن يفرَّ بدينه من مجالسهم؛ بل يخشى على هذا المجالِس -غير المنكر صراحةً- حبوطُ العمل والانسلاخُ من الدين والمروق منه بمجرّد مجالستهم، قال الله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) } [النساء: 140]

وقد ثبت في سبب نزول قول الله تعالى: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ..} [التوبة: 66]، أنّ رجلًا قال في غزوة تبوك في مجلسٍ: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أرغبَ بطونًا، ولا أكذبَ ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء. فقال رجل في المجلس: كذبتَ، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن.. والخبر رواه ابن جرير في تفسيره.

ومن المعلوم أن هذه الكلمة إنما قيلت من بعضهم لا منهم أجمعين، ومع هذا فقد حكم القرآن بتكفيرهم: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ}، وفي قوله: {بعد إيمانكم} إشارةٌ إلى أنّ منهم من كان مؤمنًا صحيحَ الإيمان ظاهرًا وباطنًا، قبل تلك المقالة الكفرية والمجلس المشؤوم، فحبط عمله بذلك القول الأشنع، عياذًا بالله ولياذًا.

قال الإمام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله في معرض كلامه عن هذه الآية: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ..} قال: "فدلّ على أنهم لم يكونوا عند أنفسهم قد أتوا كفرا؛ بل ظنوا أن ذلك ليس بكفر، فبين أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه، فدل على أنه كان عندهم إيمان ضعيف، ففعلوا هذا المحرم الذي عرفوا أنه محرم؛ ولكن لم يظنوه كفرًا وكان كفرًا كفروا به؛ فإنهم لم يعتقدوا جوازه، وهكذا قال غير واحد من السلف في صفة المنافقين الذين ضرب لهم المثل في سورة البقرة، أنهم أبصروا ثم عموا، وعرفوا ثم أنكروا، وآمنوا ثم كفروا.." [الإيمان الكبير:143].

ولو نظر الفطن في الدنيا النظر الصحيح، واستشعر حقيقتها، وتفكّر في مآلها، لانكشف له كثير من زخرف القول، فأيّ شيء في هذه الدنيا أنفس من تعظيم حدود الله! وأيّ موازنةٍ تصحّ مع إعلاء الشرك وتسميته "شرعيّة"! وأيّ مصلحة تبقى بعد أن ترفض من كتاب الله آية أو تمحى سنة! قال الله سبحانه: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)} [يونس].

روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون..".

وهل دعوة الأنبياء والمصلحين، وجهاد المجاهدين الصادقين، وصبر الصابرين المحتسبين، وقتالُ النبيّين والربيّين والصحابة والتابعين، إلا لإقامة شرع الله في الأرض، وتمكين دينه!

ولولا ما تملّك قلوبَ أكثر المنتسبين للإسلام اليوم من ضعفٍ واستكانة، وصدودٍ عن أسباب الهدى، لما كان لتقرير هذه المعاني الظاهرة البيّنة في الكتاب والسنة والسِّيَر من حاجة.

ألا فاعلموا أيها المسلمون أنه لا نجاحَ لمشروع، ولا فلاحَ لمجتمع، ولا سعادةَ لشعب، ولا رفاهيةَ حقيقيةً لأمّة، دون إقامة شرع الله في نظام الحكم وغيره، وإظهارِه والصدع به، والكفر بما سواه وحربِه وتقبيحه.

قال الله سبحانه: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256].

قال العلامة عبدالرحمن السعدي رحمه الله في رسالته "القواعد الحسان في تفسير آي القرآن":

القاعدة الثانية والخمسون: إذا وضح الحقّ وبان، لم يبقَ للمعارضة العلمية، ولا العملية محلّ.

وهذه قاعدة شرعية عقلية فطرية، قد وردت في القرآن وأرشد إليها في مواضع كثيرة.

وذلك: أنه من المعلوم أن محل المعارضات، وموضع الاستشكالات، وموضع التوقُّفات، ووقت المشاورات، إذا كان الشيء فيه اشتباه أو احتمالات، فترد عليه هذه الأمور؛ لأنها الطريق إلى البيان والتوضيح.

فأما إذا كان الشيء لا يحتمل إلا معنى واحداً واضحاً، وقد تعيّنت المصلحة، فالمجادلة والمعارضة من باب العبث، والمعارضُ هنا لا يُلتفت إلى اعتراضاته، لأنه يشبه المكابر المنكر للمحسوسات.

قال تعالى:{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [ البقرة: من الآية256 ]، يعني وإذا تبين هذا من هذا لم يبق للإكراه محلّ، لأن الإكراه إنما يكون على أمر فيه مصلحة خفيّة، فأما أمر قد اتّضح أن مصالح وسعادة الدارين مربوطة ومتعلقة به، فأي داع للإكراه فيه ؟

ونظير هذا قوله تعالى:{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [ الكهف: من الآية29 ]، أيْ هذا الحق الذي قامت البراهين الواضحة على حقِّيَّته فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.

كقوله: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [ لأنفال: من الآية42 ].." ا.ه.

وهل وظيفة الرسل وأتباعهم إلا تعبيد الناس لله ربّ العالمين، الحكَمِ الذي إليه الحُكم، وهو خير الحاكمين.

إنّ المؤمن الذي سعى للآخرة سعيها وأراد حرثها، ولم يُرد العاجلة ويجعلها منتهى أمله وأقصى أمانيّه، ليوقن أنّ كل صعوبة ومشقّة تعرِض له في طريقه لأداء فرائض الله، لهِي من تمام الابتلاء الذي به يُرفع عباد لله ويوضع آخرون، وهي من لوازم سنتي الميْز والتمحيص الربانيتين اللتين لولاهما لكان الناس كسرب القطا فريقًا واحدًا.

قال الله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران-179].

وقال سبحانه: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)} [آل عمران].

وهو مستحضرٌ في أثناء ذلك هوانَ الدنيا على الله وأنها دار اختبار وابتلاء، قال الله: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت-64].

وقال جلّ ثناؤه: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)} [الزخرف].

روى الإمام ابن جرير الطبري بسنده في تفسير هذه الآية عن الحسن البصري رحمه الله قال: "لولا أن يكون الناس كفارًا أجمعون، يميلون إلى الدنيا، لجعل الله تبارك وتعالى الذي قال، ثم قال: والله لقد مالت الدنيا بأكثر أهلها، وما فعل ذلك، فكيف لو فعله؟".

وروى الإمام مسلم في صحيحه من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن رسول الله قال ذات يوم في خطبته: " .. وإنّ الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك..".

ولو كان أحدٌ من هذا البلاء سالماً لسلم منه صفوة الخلق وأحبهم إلى الله، الرسولُ والذين آمنوا معه، قال جلّ شأنه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة-214].

روى الإمام أحمد في مسنده والترمذي في جامعه وابن ماجه في سننه من حديث عاصم بن بهدلة عن مصعب بن سعد عن أبيه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله : أي الناس أشد بلاءً؟ قال: "الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان دينه صلبًا اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة" وقال الترمذي: حسن صحيح.

وإن الرزيّة كل الرزية أن يظن قوم أنه يسعهم الخروج عن سلطان الشرع مادام خروجُهم لأجله، وعزب عن أذهانهم أن الغاية من استخلاف المؤمن في أرض الله هو تمكين دين الله، لا تمكين شخصه ولا حزبه ولا قومه وإن كانوا ممن يشار إليهم بالأصابع وتخلّى لهم المنابر، فليس الإيمان بالتحلي، ولا بالتمني، إنما الإيمان ما وقر في القلب وصدقه القول والعمل {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)} [النساء].

فالوشيجة بين أهل الإسلام هي الإسلام، فلا ولاءَ إلا له، ولا لُحمةَ إلا هو، ولا يُنال من الله قرب وولاية إلا به، وتدبّر قوله جلّ شأنه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور-55]، وتأمّلْ: {..وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ..} تعرف الحكمة التي يكون لأجلها الاستخلاف، وهي تمكين الدين في الأرض لا تمكين الأسماء والشعارات.

ولْيُعلم أنّ سنَّ قوانين موافقة لشرع الله -من لدن نظام شركي- وإن كان يُفرِح المؤمنَ أثرُه، فهو لا يُسقط عنه واجب إنكار هذا الشرك، بل لا يسوّغ له أن ينيَ فيه أو يفتر عن نكيره.

قال الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } [القلم: 9]

قال العلامة السعدي رحمه الله في تفسيره:{وَدُّوا} أي: المشركون {لَوْ تُدْهِنُ} أي: توافقهم على بعض ما هم عليه، إما بالقول أو الفعل أو بالسكوت عما يتعين الكلام فيه، {فَيُدْهِنُونَ} ولكن اصدع بأمر الله، وأظهر دين الإسلام، فإن تمام إظهاره، بنقض ما يضاده، وعيب ما يناقضه. ا.ه

أقول هذا إبراءً للذمة، ونصحًا للحاكم والمحكوم، وصيانةً لجناب التوحيد، وحمايةً لحماه، وذودًا عن حياضه، والله المستعان، وإليه المرجع، ولا حول ولا قوة إلا به.

عبد الله بن عبد الرّحمن السّعد

9 / 2 /  1438 هـ