بسم الله الرحمن الرحيم

   قديما ، كنت أردد عبارة تدل على سذاجة فكرية : (لو لم أكن مسلما لكنت اشتراكيا ماركسيا) ؛

   و كأن الاسلام و الاشتراكية ضدان لا يلتقيان .

   و مع تنوع القراءات ، و تراكم الخبرات ، تراجعت الـسـذاجة (قليلا) ، و أدركت أن القيم العليا التي اتفق البشر  على أهميتها – كالحرية ، و العدالة ، و المساواة – لا تتعارض مع جوهر الاسلام ، بل ان هذه القيم  - ان لم تكن من صميم الاسلام – فهي تساهم في تحقيق المقاصد العامة للشريعة الاسلامية .

   أما اليوم ، فقد أصبحت أكثر ميلا لوضع الأفكار ، و النظم ، و الأحداث ... في اطارها التاريخي ، فـمعـظم الأفكار – كما يظهر لي - تعمل ضمن شروط و ظروف معينة ، و كذلك النظم ، أما الأحداث ، فلا يمكن فهمها بعمق الا اذا فهمنا البيئة التي أفرزتها ، و لعل الماركسيين هم رواد هذه "المدرسة التاريخية" .

   و مع ادراكنا لجوانب القصور في التحليلات الماركسية - مثلها في ذلك مثل كل أعمال البشر – الا أنني اليوم، قد ازددت يقينا – و لا أدري ما الذي حدث للسذاجة - أن الماركسيين هم أفضل من نقدوا النظام المهيمن على عالمنا البائس : (النظام الرأسمالي) ، لذلك تكتسب تحليلاتهم اهمية بالغة، خاصة للمناضلين الحالمين بعالم أكثر عدالة ؛

يقول الماركسيون :  أن الرأسمالية نظام قائم على التوسع ، و نهب الثروات ، و استغلال الانسان ... نعم ارتَـدَت الرأسماليةُ في أوروبا الغربية - بعد الحرب العالمية الثانية – قـناعا انسانيا ، و تجسد ذلك في " دولة الرفاه " ، و لكن الأزمات التي شهدها العالم الرأسمالي كشفت عن الوجه الحقيقي المتوحش للرأسمالية ؛ اذ عالجت مشاكلها على حساب الانسان ؛ فتراجعت الدول الغربية - و أحيانا بمشاركة اليسار المهجن او موافقته-  عن المكتسبات التي حققها العمال بعد النضال ، و اتخذت إجراءات جديدة أثرت على مخصصات التقاعد ، و على الخدمات الصحيه ...  باختصار : قضى الغرب على دولة الرفاه ، فوجه ضربة قوية للعمال ،و كبار السن، و المرضى ... لقد وجه ضربة قوية للضعفاء ! ترى،  لصالح من ؟ طبعا لصالح الأقوياء ، لصالح رأس المال الذي اعطي الضوء الأخضر لغزو العالم ، و نتج عن ذلك تفشي البطالة ، و انتشار الفقر ، و انهيار الأسواق المالية ، ثم انهيار الاقتصاد - او تضرره بشكل كبير _ في الدول التي غزاها فرسان المضاربات المالية .

   هذه الانتقادات للنظام الرأسمالي – و مثلها كثير – أوردها "دانييل سينجر" في كتابه المُؤَلَّف على اعتاب الالفية الثانية :

 " الصراع في العالم في الألفية الجديدة " ؛

كان الاتحاد السوفيتي قد انهار ، و سبقه الى الانهيار أنظمة اشتراكية متعددة في اوروبا الشرقية ، فأعلن العالم الغربي عن "نهاية التاريخ" ، و تـحـقـيـق النصر النهائي للرأسمالية على الاشتراكية و الشيوعية ، و هو ما يرفضه سينجر بشدة ؛

   يؤكد سينجر أن ما انهار هو "الصيغة الستالينية للاشتراكية" ، و هي صيغة شوهت الاشتراكية ، و رغم تحمل "البلاشــفـة" – خاصة لينين و ستالين - وزر الصورة السوداء للاشتراكية ، الا أن المؤلف يدعونا الى قراءة تاريخية للتجربة السوفيتية : فالاتحاد السوفيتي لم يكن بلدا صناعيا ، لذلك لم يحلم الماركسيين باحتضانه لثورة العمال ، كانت "أوروبا الغربية" هي المرشحة لذلك ، و لكن الثورة حدثت في أرضٍ أخرى ، أرض لم تكن ناضجة "تاريخيا" للتجربة الاشتراكية ، فجرب القادة السوفييت تسريع عجلة التاريخ ، باقتلاع الفلاحين من أراضيهم ، و دفعهم الى العمل في الصناعة دفعا ، لخلق صناعة متقدمة خلال سنوات قليلة ، و ذلك  تمهيدا للوصول الى مجتمع اشتراكي يكون بوابة  الدخول الى جنة الشيوعية، و طبعا فُـرِضَ ذلك بالقوة ، و لكن "حكم التاريخ" – أو "سنة الله" – لا تُـعانَد فانهارت التجربة .

   اذن كانت الهزيمة هي هزيمة لتجربة محددة من الاشتراكية ، و اذن ، لا يزال "البديل" مطروحا ، بل ان طرحه قد أصبح فريضة تاريخية ؛ فأزمة الرأسمالية قد بلغـت ذروتها ، و رغم أن الكاتب كان حذرا فلم يصدر نعـيا لها ، الا أنه يعـتـقـد جازما أن الاصلاح لم يعد مجديا ، لا في أميركا ، و لا حتى في أوروبا ، فالتفاوت في الاجور ، و التراتبية في العمل ، و استغلال المرأة ، و تدمير البيئة ، و نهب الثروات ...  هذه المظالم و غيرها ، لا يمكن القضاء عليها ببعض الاصلاحات ، بل بالقضاء على السبب الأساسي لها ، و هو : الرأسمالية ؛ فالرأسمالية و الظلم يسيران – حتما – جنبا الى جنب حسب سينجر ، و كل اليسار الراديكالي  (كما يسمى ، تمييزا له - كما يظهر - عن اليسار الذي هجنته السياسه ،  و ربما  رأس المال).

أما البديل عن النظام الرأسمالي  فهو :

"مجتمع اشتراكي ديمقراطي" يكون الانتاج فيه حسب الحاجة الانسانية الحقيقية ، و بهذا يصبح الهدف من العمل تلبية حاجات الانسان ، و ليس الربح . هذه هي الميزة الأساسية لمجتمع سينجر ، و من تبقى من اليسار غير المُهَجَّـن ، و الا فقد حـلَّـقَ الكاتب بنا في سماء "مجتمع جديد" تبدو تفاصيله مُغْـرِقَةٌ في الخيال ، تبدو " طوباوية" ؛ تشبه " جمهورية أفلاطون ؛ أو " المدينة الفاضلة " . و هذا من أهم الانتقادات الموجهة لليسار المؤمن بالتغيير الجذري "الراديكالي" ، كوسيلة لحل الأزمات المتعددة في الغرب ، و في العالم ؛

فالرأسماليون – أو بعـض خُـدَّامِهم من المثـقـفـيـن - يعتبرون أن الانسان جشع بطبيعته ، لا يحركه الا الطمع في المال ، و بالتالي ، لا يمكن تصور مجتمع متقدم دون تحفيزات مادية ... و يرد الكاتب قائلا : أن الطبيعة البشرية الثابتة غير مسلم بها ، و أن سـلـوك الأنـسـان هو نتاج ظروفه التاريخية ، فآلة الدعاية الغربية هي التي خلقت الانسان الاستهلاكي ، و هي التي أفرزت العـقـلية التجارية لخدمة للنظام الرأسمالي.

   هذه بعض اطروحات كتاب سينجر : " الصراع في العالم في الألفية الجديدة " .

   اذن : لـيـست بلاد العرب وحدها هي التي تعاني من آلام المخاض ، بل ان هناك مخاض عالمي قاس : هناك نظام عالمي في طور الانحلال ، و نظام آخر لا يزال جنينيا ؛ في طور التشكل . و هذا ما يعقد ظروفنا نحن العرب . هذا أولا .

   أما النقطة الثانية المرتبطة بالأولى : فهي أن ما يتشكل غير واضح المعالم بعد ، لكن المطلوب تشكيله ؛ النظام الـمُنعَـقِـدَة عليه آمال الشعوب المظلومة – هنا ، في عالمنا العربي ، و في الغرب – هذا النظام المُرتَجى واضح المعالم ، او قل : انه واضح الاهداف :

اننا نحتاج الى نظام مختـلف (جوهريا) عن النظام الرأسمالي ؛ نظام يعاملنا كبشر متساوين و ليس كعبيد . نظام يشبه نظام سينجر و لا يُـشـتـرط أن يكون هو ، فلكل بلد خصوصيته ، و لكل أقـليم معالمه ... و لكننا نعيش جميعا في عالم مترابط الأطراف يؤثر بنا ، و نؤثر فيه ، كما أننا نحن البشر متشابهون في آلامنا و آمالنا ، و لا بد من تبادل التجارب و تشارك الخبرات .

    و لعل تناسي بعض العرب-  أو جهلهم  – اذا افترضنا حسن النية – لمغزى ما تقدم : أن هناك صراع عالمي ، و تحولات كبرى ، و أن أنظمتنا جزء من هذا الصراع ، و هذه التحولات . هذا الجهل هو الذي جعل بعض الاسلاميين يستجيرون بحلف الناتو  ، و هو الذي يجعل بعض العلمانيين يقفون الى جانب بعض الــمـستـبدين من الحكام ضد (خصومهم) من الاسلاميين ... لقد فقد الطرفان البوصلة ؛ فحاربوا في الميدان الخطأ ، بل في الميدان القاتل لكل آمال التغيير ، انهم يقاتلون الى جانب الجاني ضد المجني عليه؛ ضد الشعوب المطحونة ، فضيعوا البلاد و العباد !

ثالثا : لا يعني ما تقدم أن النظام الجديد سيكون كما نـشـاء ، فـقـدرة الأنظمة القائمة على الاسـتـمـرار بأشكال جديدة هي قدرة هائلة : تـتـغـيـر الوجوه و الأشكال و يبقى الجوهر ، و هذا – أضافة لما ينشره من يأس – ينبهنا الى نقطة جوهرية طرحها سينجر : علينا أن ننشر (الوعي) مركزين على المطالب الأساسية لنا كبشر ، و هي مطالب لا يمكن تحقيقها الا اذا تـغـيـرت الأنـظـمة القائمة تغيرا جوهريا ، اذن يجب ان يكون الهدف النهائي هو : البحث عن مجـتـمـعـات بديلة ؛ اما اليسار  فبديلهم معروف ، و أما نحن- العرب و  المسلمون- فالجدال لا يزال محتدما منذ نهاية القرن التاسع عشر حول السبيل الى النهوض ، و لا مجال هنا للتفاصيل ، و لكن "تجارب الأمم" – و المصطلح لمسكويه  – هي ملك لجميع البشر ، فلا بد من الإستفادة منها بلا حرج ، و لعل الهدف الأساس من مقالتي هذه ، هو  حث الباحثين و المحللين ،  على  فهم الأحداث الجسام التي شهدتها السنوات الأخيرة ، ضمن سياقها التاريخي و العالمي ، فهذا مدخل من اهم المداخل لتوضيح الرؤيا ، و الاستعداد المستقبل .

   رابعا : لا يعني السعي الدؤوب من أجل الهدف النهائي نسيان المشاكل اليومية للناس . لكن علينا أن لا ننسى و نحن نخوض في مشاكلنا اليومية الهدف النهائي ... و هذا درس آخر من دروس سينجر .

   ان المهمة صعـبة ، والطريق شاقة و طويلة ، و لكن السير فيها واجب ، لا بديل عنه ... بلى ، ان البديل موجود  : انه الـقـبـول باسـتـمـرار الظـلـم .