بسم الله الرحمن الرحيم

إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، أما بعد..

فإنّ المؤمن المبتغي رضا ربّه، المعظّمَ لأوامره، الحريصَ على نجاة نفسه في الآخرة، لا يفتأُ من تذكير نفسه ونصيحة إخوانه المسلمين، بتعظيم أوامر الله وحدوده، وتجنّب مساخطه وما نهى عنه، فكيف إذا كان المنهيّ عنه، من أعظم ما حرّم الله، ومن الموبقات المهلكات، والورطات التي لا مخرجَ منها، كسفك الدم الحرام بغير حلّه، وقد أخرج البخاري ومسلم في «صحيحيهما» من حديث ابن عمر وجرير بن عبد الله وأبي بكرة، وهو عند البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين عن رسول الله ﷺ أنه قال: «لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض»، وفي حديث جرير أنّه قال له ﷺ: «اسْتنصِت الناس»، أي: اطلب منهم الإنصات؛ لأجل أن يسمعهم هذه الكلمة.

وأخرج الإمام أحمد في «مسنده»، والنسائي، وابن ماجه في «سننهما»؛ عن سالم بن أبي الجعد أن ابن عباس رضي الله عنهما سئل عمّن قتل مؤمنًا ثم تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى، فقال ابن عباس: ويحك وأنّى له الهدى؟ سمعت نبيكم ﷺ يقول: «يجيء المقتول متعلقًا بالقاتل يقول: يا ربِّ سل هذا فيم قتلني». والنصوص في هذه الخطيئة العظيمة لا تكاد تُحصر.

ولا يشفع للمتخوّض في الدماء التشبُّثُ ببعض النصوص وفق مراده وترك بعضها، فهذا لا يزيده إلا بعدًا عن الحقّ، وصرفًا عن الهداية، قال الله تعالى: ﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ﴾.

وإنّ من الأصول المقرّرة في الشرع أنّ جناية المرء وخطأَه لا يكون إلا على نفسه، ولا تكون تبعتُها إلّا عليه، في أحكام الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾، وأخرج أحمد في «مسنده»، وأبو داود في «سننه»، عن أبي رمثة رضي الله عنه قال: انطلقت مع أبي نحو النبي ﷺ، ثم إنّ رسول الله ﷺ قال لأبي: «ابنك هذا؟»، قال: إي وربِّ الكعبة. قال: «حقًّا؟»، قال: أشهد به. قال: فتبسّم رسول الله ﷺ ضاحكًا من ثبت شبهي بأبي، ومن حلف أبي عليّ -وفي رواية لأحمد قال: «أتحبّه؟»، قال: نعم- ثم قال : «أما إنّه لا يجني عليك ولا تجني عليه»، وقرأ رسول الله: ﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى﴾، فلا يؤاخذ إنسان بجريرة غيره مهما كان قُربه منه، وهذا مقتضَى العدل، وموجب القسط الذي قامت به السماوات والأرض.

قال العلّامة ابن القيم رحمه الله في «الطرق الحكميّة»: «ومن له ذوق في الشريعة، واطّلاع على كمالها، وتضمّنها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد، ومجيئها بغاية العدل الذي يسع الخلائق، وأنَّه لا عدل فوق عدلها، ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح، تبيَّن له أنَّ السياسة العادلة جزء من أجزائها، وفرع من فروعها، وأنَّ من أحاط علمًا بمقاصدها، ووضعها موضعها، وحسن فهمه فيها لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البَتَّة، فإنَّ السياسة نوعان: سياسة ظالمة، فالشريعة تحرمها، وسياسة عادلة تخرج الحقَّ من الظالم الفاجر، فهي من الشريعة علمها من علمها، وجهلها من جهلها..». ا.هـ.

ثمّ إنّي أنبّه على أمر مهم، وهو أنّ الواجب هو الانتماء إلى دين الإسلام، وترك الأسماء والألقاب والفرق الحادثة، فهو الاسم الذي ارتضاه ربنا سبحانه لنا، قال الله تعالى: ﴿هو سماكم المسلمين﴾، وقد ثبت في «الصحيحين» من حديث عمرو بن دينار أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار. فقال الأنصاري: يا للأنصار. وقال المهاجري: يا للمهاجرين فسمع ذاك رسول الله ﷺ فقال: «ما بال دعوى جاهلية؟»، قالوا: يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار. فقال: «دعوها؛ فإنها منتنة»، فسمع بذلك عبد الله بن أبيّ فقال: فعلوها؟ أما والله لئن رجعنا إلى المدينة؛ ليخرجن الأعزُّ منها الأذلَّ. فبلغ النبي ﷺ فقام عمر فقال: يا رسول الله؛ دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال النبي ﷺ: «دعه، لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه»، وأخرج الإمام أحمد في «مسنده»، والترمذي في «جامعه»، والنسائي في «سننه»، وابن خزيمة في «صحيحه»؛ من طريق زيد بن سلام، أن أبا سلام حدّثه عن الحارث الأشعري رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ قال: «..وأنا آمركم بخمس، الله أمرني بهن: بالجماعة، والسمع، والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله، فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر؛ فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، إلا أن يرجع، ومن دعا بدعوى الجاهلية؛ فهو من جثاء جهنم»، قالوا: يا رسول الله، وإن صام وإن صلّى؟! قال: «وإن صام وإن صلّى وزعم أنه مسلم، فادعوا المسلمين بأسمائهم، بما سماهم الله عز وجل المسلمين المؤمنين عباد الله».

وهذه الجماعات هي في الحقيقة –أحيانًا- من الوسائل التي إنما تُتخذ إسراعا في دفع صيال العدو الظالم إذا كان الاجتماع التام يأخذ قدرا من الوقت، ومن ثمّ فهي وسيلة تتخذ أول الأمر ولا يجوز البقاء عليها عند اضمحلال مصلحتها، فكيف إذا انقلبت هذه الوسيلة إلى مفسدة تزيد من التفرق والاختلاف؟! فلا ريب حينئذٍ أن تعطيل الاجتماع وتأخيره تحت أي عذر: جرم عظيم، وجناية على الأمة، ألا فليتق الله كل صاحب قلم وصوت أن يلقى الله وقد تحمّل شيئًا من هذا الجرم.

والاعتداء والظلم من جماعة على أخرى يكون دفعه بالعلم والحكمة، إذ الظلم لا يدفع بظلم، ومعلوم أن من صبر فلم يعاقب بمثل ما عوقب به هو خير عند الله ممن عاقب بمثل ما عوقب به مع أنه حقٌّ له، وأما من جاوز بعقوبته ما عوقب به فإنه قد خرج من رتبة الفضل والعدل إلى الاعتداء والبغي، وأولى الناس باستعمال رتبة الفضل من تجمع بينهم رابطة واحدة وهي رابطة الإسلام، فكيف بمن تجمعهم رابطة أخص منها وهي رابطة الجهاد في سبيل الله، ودفع عدو صائل معتد على الأموال والدماء؟! وإن أول من يصطلي بنار مجاوزة العدل هم أصحاب الجماعات نفسها, من ظَلَم ومن ظُلِم!

وما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة يحذرون وقوع أي بادرة قتال في صف المسلمين مع أنهم في حال عالية من الاجتماع والقوة، ولم تتسلط عليهم أمم الكفر كما هي حالنا، فنحن أحوج إلى هديهم وأولى به في هذا الوقت من أي وقت مضى، فهذا رسول ﷺ امتنع عن قتل بعض كبار المنافقين من أجل أن لا يتحدّث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، وكذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ فإنه لم يبدأ الخوارج بقتال -مع غلظ بدعتهم- وقال: «ألا إن لكم عندي ثلاث خلال ما كنتم معنا: لن نمنعكم مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، ولا نمنعكم فيئًا ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا»، أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» من طريق ابن نمير عن الأجلح عن سلمة بن كهيل عن كثير بن نمر عن علي، ومن طريقه البيهقي في «الكبرى»؛ ثم قال: "وروي بعض معناه من وجه آخر عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي رضي الله عنه"، فلم يبدأهم رضي الله عنه حتى بدأوه هم فقتلوا عبدالله بن خباب وامتنعوا عن تسليم قاتله؛ فقاتلهم حين ذلك.

وقد أخرج ابن أبي شيبة من طريق يزيد بن هارون عن سليمان التيمي عن أبي مجلز قال: نهى علي أصحابه أن يبسطوا على الخوارج حتى يحدثوا حدثًا ، فمرّوا بعبد الله بن خباب فأخذوه، فمرّ بعضهم على تمرة ساقطة من نخلة فأخذها فألقاها في فيه، فقال بعضهم: تمرة معاهد! فبم استحللتها؟ فألقاها من فيه، ثم مروا على خنزير فنفحه بعضهم بسيفه، فقال بعضهم: خنزير معاهد! فبمَ استحللته؟ فقال عبد الله: ألا أدلكم على ما هو أعظم عليكم حرمة من هذا؟ قالوا: نعم. قال: أنا. فقدموه فضربوا عنقه، فأرسل إليهم علي أن أقيدونا بعبد الله بن خباب. فأرسلوا إليه: وكيف نقيدك وكلنا قتله. قال: أَوَكلكم قتله؟ قالوا: نعم. فقال: الله أكبر. ثم أمر أصحابه أن يبسطوا عليهم..، ورواه أيضًا من طريق ابن علية عن سليمان بنحوه، وأخرجه الدارقطني من طريق ابن مبشر عن محمد بن عبادة عن يزيد بن هارون به، ورواه البيهقي في «الكبرى» من طريقه به.

وقد هادن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفار قريش في ترك الاقتتال ورفع الحرب؛ وسمى الله عز وجل هذا الصلح فتحًا؛ فقال تعالى: (إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا)، فلأن يصطلح المسلمون من باب أولى وأحرى!

وقد أخرج البخاري من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتحًا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية، وأخرج ابن جرير من طريق الأعمش عن أبي سفيان عن جابر: ما كنا نعد الفتح إلا يوم الحديبية، وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن الشعبي في قوله: (إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا)؛ قال: صلح الحديبية، وغفر له ما تقدم وما تأخر، وتبايعوا بيعة الرضوان، وأطعموا نخيل خيبر، وظهرت الروم على فارس، وفرح المسلمون بنصر الله، وذكر ابن إسحاق في مغازيه عن الزهري قال: لم يكن في الإسلام فتح قبل فتح الحديبية أعظم منه، إنما كان الكفر حيث القتال، فلما أمن الناس كلهم كلم بعضهم بعضًا وتفاوضوا في الحديث والمنازعة، ولم يكن أحد في الإسلام يعقل شيئًا إلا بادر إلى الدخول فيه، فلقد دخل في تلك السنتين مثل من كان دخل في الإسلام قبل ذلك أو أكثر. قال ابن هشام: ويدل عليه أنه صلى الله عليه وسلم خرج في الحديبية في ألف وأربع مائة، ثم خرج بعد سنين إلى فتح مكة في عشرة آلاف ا.هـ

فهذا الخير العظيم إنما حصل بسبب هذا الصلح؛ فكيف إذا كان الصلح بين المسلمين؟! فلا شك أن سيعقبه اجتماع كلمة، وتآلف في القلوب، ونصر ورفعة في الدنيا والآخرة؟! كما حصل في عام الجماعة في الصلح الذي حصل بين الحسن بن علي حينما تنازل فيه عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، فاتحدت كلمة المسلمين، وحقنت دماؤهم، وأصبحوا يدًا واحدة على من سواهم، وقامت سوق الجهاد، وفتحت البلاد، وأمن الناس على دمائهم وأموالهم، واستحق الحسن بن علي رضي الله عنهما لقب السيادة كما في البخاري من حديث أبي بكرة.

فيجب على المسلمين جميعًا، وخاصة في الشام وفي ليبيا أن يكفوا عن الاقتتال فيما بينهم، وأن يجتمعوا على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأن يستعيذوا بالله من الفرقة، ومن هذه الفتن التي سُفكت فيها الدماء البريئة، وذهبت فيها الأموال، وشُرّد فيها الناس من بلادهم، واستحل بها العدو أعراضهم، واستباح بيضتهم.

اللهم اجمع المؤمنين على الهدى ودين الحقّ، وألّف بين كلمتهم، واهدهم سبل السلام، وبالله التوفيق.

عبد الله بن عبد الرَّحمن السَّعد

١٤٣٨/١/١٧ هـ