🌸" هذا ما يدعوني إلى تأنيب نفسي، وتلاوة المراثي عليها، كلما تذكرت بأنني لم أعد قادراً على تمثّل الدهشة أو الإمساك بالبراءة أو العيش في نعيمها، مثلما فعلت عندما كتبت هذه الرواية؛ [رواية الطريق إلى بلحارث ] " . .


🌸" إلا أن الطريق إلى بلحارث ما زالت قابلة للقراءة، ليس بفضل براعةِ كاتبها أو هول أحداثها، أبداً، إنما بفضل النهايات المؤلمةِ لزمن البساطة الذي وُلِدت فيه ونُشِرت فيه، فهي تخلو من الحساب، والتوظيف المُتَعَسِّف للذكاء، والنغمات المعدنية للهواتف النقالة، والدوي المروع للانهيارات المالية، وتهويمات العوالم الافتراضية التي يزخر بها الإنترنت، وطقوس الفضائيات التي لم تكن قد اكتشفت بعد" ..  

----

💠الروائي الراحل جمال ناجي متحدثاً عن روايته الطريق إلى بلحارث. هذه الرواية التي شدني تقديم ناجي لها، قبل أن تشدني الرواية نفسها، منذ صفحتها الأولى حتى صفحتها الأخيرة؛ فهي رواية آسرة بلغتها، بسردها، بأجوائها، بموضوعها، بالأحاسيس الحارّة التي تتخللها كلها.


هذه الميزة الأخيرة، وهي حرارة الأحاسيس، هي التي افتقدتها في رواية ناجي : "مخلفات الزوابع الأخيرة" .  


💠إن رواية مخلفات الزوابع تبدو لي، من حيث الموضوع، أكثر تميزاً، فهي تُشَيّد مدينة من العدم تقريباً؛ (وادي الغجر)، تروي لنا تطور الوادي منذ التأسيس، وما صحب ذلك من تغيرات اجتماعية نفسية طالت الغجر، هذه الفئة التي تعشق الترحال والحرية والرقص والغناء، كيف انتقلت إلى حياة الاستقرار. وما الذي حدث لها إذ استقرت ؟ . هذا موضوع أظنه متميزاً، وربما فريداً، وهو موضوع يدل على طموح كبير، وربما مغامرة كبيرة خاضها ناجي . 


ولا شك أن هذا الموضوع يحتاج إلى صبر، وهندسة، وأشهد أنني استمتعت بمراقبة البدايات لهذه المدينة التي احتضنها ذلك الوادي، فأنا عاشق للبدايات . ومن يكره البدايات ؟. من الذي لا يعشق الطزاجة، الأرض البِكر، العالم وهو يتشكل، من الذي لا تشده عملية الخلق والتطور ؟ . اعذروني ان قلت مجيباً : إنه متبلد الإحساس ...


💠ورغم متعتي، إلا أنني افتقدت حرارة الأحاسيس، وتأثير المواقف والأحداث، وتأثير (معظم) الشخصيات، في رواية "مخلفات الزوابع الأخيرة "، وربما كان بطل الرواية هما الزمان والمكان كما لاحظ أحد النقاد، لكن حتى لو كان الزمان والمكان هما البطلان، فهذا لا يعني ألا نعطي الشخصيات حقها في النضج والفاعلية، بل إن الزمان والمكان، لا يمكن ان يفعلا إلا بفعالية العنصر البشري، فرغم سطوة الزمان، وتسلط المكان، على البشر، إلا ان الإنسان أيضا فاعل في الزمان والمكان .


💠هذا لا يعني أن الشخصيات سلبية تماماً في رواية مخلفات الزوابع، ولكن الكثير من هذه الشخصيات لم تنضج تماماً، لم تأخذ حقها في التطور، وهذا ما جعل بعض التصرفات غير مقنعة . مع ذلك فإن بعض الشخصيات تصرفت بالمنطق الذي فرضه رسم ناجي لها . 


ربما في غمار هندسة ناجي للوادي زمانيا ومكانياً، أغفل ناجي تتبع تطور بعض الشخصيات لتصل إلى اتخاذ القرارات وتبني المواقف، التي قدرها لها ناجي. ربما، وربما هذا ما جعلني لا أشعر بحرارة الأحاسيس، وبوقع الأحداث في بعض المواضع، ربما، وربما أكون متعجلاً في كلامي. وهو على اي حالٍ انطباع عام ازداد رسوخاً، ربما، بما قاله أحد النقاد حول شخصيات هذه الرواية .


💠أعود الى تقديم ناجي لروايته الطريق إلى بلحارث، وحديثه عن البراءة والبساطة والدهشة، وتحسره على فقدان هذه الصفات، وأقول: لقد قبض جمال ناجي، برأيي، على سر جمال وتأثير، وأصالة، رواية الطريق إلى بلحارث. فأنا أحسب ان الرجل كتبها وهو مثقل بأفكار وبتجربة معينة، ونقلها على الورق وهي تلح عليه، وبدون تعقيدات وفذلكات، وربما بدون كثير تخطيط.  


ربما نقل ناجي لنا تجربة شخصية، هي أيضاً بسيطة، بريئة، وربما نقلها بنفس البساطة والبراءة . وأنا شخصياً مقتنع بقوة الكتابة النابعة عن تجربة، عن الرغبة في التخفف من ثقل هم فكري، أو ضغط نفسي، أو ثقل السؤال والقلق الوجودي . وهذا يعيدنا إلى رأي #غالب_هلسا في الرواية الأصيلة، فهي عنده النابعة من التجربة الشخصية حصريا، وأظنه قال في بعض المناسبات، ان همنغواي كتب بهذه الروح.  


فلا عجب - إذا صح انطباعي عن خلفيات كتابة الطريق إلى بلحارث- أن تأسرني هذه الرواية، وان تؤثر في نفسي بشدة، بينما لم تستطع رواية مخلفات الزوابع الأخيرة ان تتجاوز بي عتبة الإعجاب بقدرتها على بناء مدينة من العدم، وتتبعها لهذا التطور. لكنها لم تنجح في الاستحواذ علي، والتأثير بي. فهي نابعة من تصميم وهندسة مسبقين، وليست نابعة من تجربة معاشة. وربما لو اشتغل ناجي على الشخصيات أكثر، وحاول تمثلها اكثر، لأصبحت الرواية أكثر تأثيراً.  


لكنّ الروايتين، على كل الأحوال، تثيران أسئلة مهمة حول الإنسان، حول الاجتماع البشري، حول البداية والمآل، حول جمال وبراءة الحلم، وبشاعة وخبث الواقع، حول أثر السطوة والمال والملكية الخاصة والاستقرار على البشر .... الخ الخ.  


الروايتان تشهدان على روائي جَدّي، صادق مع نفسه، ولا أدل على صدقه ما نقلناه عنه في مفتتح هذا المقال. وأعتقد أن سر الفرق بين الروايتين، يكمن في ناجي نفسه، في تغيرات وتطورات طالت شخصيته، أو / و، نظرته للأمور، فأفرزت روايتين مختلفتين مضموناً، وأسلوبا وتأثيراً. فهل انتهت بساطة ناجي وتلقائيته مع انتهاء ذلك الزمن الذي نعاه ؟ . هل اصبح لدينا ناجي صاحب العقل البارد بدلاً من ناجي صاحب العاطفة والأحاسيس المتقدة ؟ هل هيمن، او طغى العقل على الأحاسيس؟ . لا أدري. هذا كله، وكلامي كله، بحاجة إلى تأكيد او نفي، من خلال قراءة مجمل أعمال ناجي، وبحاجة إلى تتبع تطوره الشخصي والفكري .


--------

ملاحظات :

 الفقرة الأولى، المقتبسة كانت بلا علامات ترقيم، فسمحن لنفسي بإضافة علامات الترقيم إليها، وما بين الأقواس المكسورة مني للتوضيح . 


في أول تعليق تجدون رابطاً تعريفيا بجمال ناجي. 


لم أتحدث عن موضوع الروايتين، خاصةً الطريق إلى بلحارث، وربما نتحدث عنها لاحقاً ان شاء الله بالتفصيل. فهي تستحق وقفات . 


#كتب_علاء_هلال 

#خواطري_علاء_هلال 

#علاء_هلال_كتب