بسم الله الرحمن الرحيم
صراخ من أجل الحرية و الابداع
كثيراً ما يخطرُ لي أن أخرجَ عن لباقـتي و أصرخَ في وجهِ كلِّ من يضايقـني بـحـقـيقـتـه – كما أراها طبعا - فأقولُ لهذا : أنتَ مُـمِّـل ، و لذاك أنت ثقيلُ الـظِّـل ، و لتلك أنتِ صغيرةُ الـعـقـل ...
و لكن هل أفعل ذلك ؟ و لأكن صريحاً - و دقيقاً - أكثر :
هل ( أستطيع ) فعل ذلك ؟
فـنحن البشر محكومون بأعرافٍ و قوانينَ ، مكبلون بقيودٍ نفسيةٍ و اجتماعيةٍ و دينية ... نحن – كأفراد – نعيش مُـعـتـقـدين أننا أحرار ، و الحقُّ – كما يبدو – أننا لسنا كذلك ؛ نحن لسنا نحن :
يولد المولودُ – كما قال رسولنا محمد ، صلى الله عليه و سلم - فـيُـمَـجَّـس أو يُـهَـوَّد أو يُـنَـصَّـر ، أو يـؤسْـلَم ...
ثم نساقُ الى المدارس سوقاً، نُلَـقَّـنُ ما اتُّـفِـقَ على حَـشْـوِه في أدمغتنا الصغيرة البيضاء ، و اذا خرجنا على النظام ؛ فخطر لطفلٍ مسكينٍ أن يحمل قـلَمَه فـيـخـربـشُ شيئا ما ، فالويلُ له ، و ان توجهت العينانِ البريئتانِ الصغيرتانِ شـطـرَ النافذة ، و راحتا تحلمان ، فالويل لصاحبهما ...
و الويلُ و الثُـبـور ، و التهديد بعظائمِ الأمور ، لمن صـرَّحَ برأيٍ يخالف رأي "الجماعة" ، أو سلك سلوكاً لا يليق بمكانة "العائلة" ، أو تصرف تصرفاً لا يناسبُ تاريخ "القبيلة" ...
لم نختر ديننا اذاً ، و لا جـنـسـنا ، و لا عاداتـنا و تـقـاليدنا ... فماذا بقي للأنا ؟ ، ربما وهمُ التـمـيـز ، و شعور كاذب بالحرية ...
لست عدمياً ، و لست حالماً بفردٍ مُـتَـحَرِّرٍ كلياً من قيودِ المجتمع ، و لكني أسْـتَـشْـعِـرُ اختلالاً كبيراً في الميزان بين المجتمع و الفرد ، أسـتــشـعر ثـقـلَ المجتمعِ و خِـفَّـةِ الـفـرد ؛ عشراتُ القيودِ تكبلُ اليدينَ و الرجلين ، عشراتُ المخاوفِ تملأ الصدور ، مئاتُ الضوابطِ تُـكَـبِّل العقول ...
و النتيجة : ما نراه ، و لا داعي لشرح ما نراه ؛ فقد استحالت أبشعُ كوابيسنا الى واقعٍ مُـر ، واقع مأساوي يوقِّـع – بالدم - على صحة نتائج الكشف الفكري و النفسي و الاجتماعي التي أسفرت عنها الدراسات القليلة الجادة : عقولٌ متحجرة ، و مناهجُ فاشلة ، و عادات بالية ، و شخصيات مُـشـوَّهة .
فهل أستطيع الخروج عن لباقتي و الصراخ في وجه الـمُـمِـلِّين و الـثُـقـلاءِ و الأغبياء ؟ .
لكن : لماذا الصراخُ في وجهِ الضحايا ؟ نعم ، ان هؤلاء ضحايا ، مثـلي .
ربما الأفضلُ أن أحُـثَّـهـم على الصراخ معي ، الصراخ في وجهِ الأنظمةِ الفاسـدة ، و ممثلي العادات البالية ، و المروجين للأفكار العتيقة ، و الأهم – ربما - :
أن أحثهم على الصراخ معي ، مطالبين بتغيير مناهج التفكير ، الاهم – ربما - : أن نصرخ مطالبين بتحرير العقول ... فلا يكفي أن نطيح بدكتاتور علماني و ننصب مكانه دكتاتورا اسلاميا ، و لا يكفي أن نُـسـكـتَ شيخاً متعصبا ، ثم نرضخ لمثـقـفٍ علمانيٍ مُـتَـعَـجْـرِف ، و لا أن نتحرر من عاداتٍ قديمةٍ بالية ، ثم نرضخ لعادات تكنولوجية حديثة هدامة...
بكلمة : نحتاج الى عقولٍ مُــتَـفَـتِّحة ، و مناهِج جادة - و ربما جديدة - نحتاج الى جـو من الحرية ، و حالة ملائـمـة للإبـداع ... نحتاج الى ابداع .
لكن : هل يجدي الصراخ ؟ أم أن النهضة و التقدم محكومان بتغيرات سياسية و اجتماعية و اقتصادية لم تحدث بعد ؟ هل يغير الفكر الواقع ؟ أم أن الواقع يفرز فكره الخاص ؟ .
أغلب الظن أنها علاقة جدلية ؛ فلا شك أن للواقع أخاديد محفورة على وجه الفكر ، و طرق التفكير ، و لكن الفكر أيضا يصارع الواقع و يؤثر فيه ؛ فنحن بشر و لسنا حجارة صماء فاقدة للإرادة ... و هذه الجدلية تعلمنا درساً مهما :
فرغم أثر الفكرِ في الواقع ، الا أننا لا نستطيع التحررَ من وطأةِ الواقعِ أيضا ، اذن نحن لا نستطيع التفكير ، و لا التخطيط ، بدون أخذِ الحقائقِ و الظروفِ الخاصةِ بنا كعرب بعين الاعتبار ؛ اننا نحتاج الى بناءٍ فكريٍّ ، و الى بنىً اجتماعية و سياسية و اقتصادية ، ملائمة لظروفنا الموضوعية ، علينا أن نراقب مجرى التاريخ جيدا ، حتى نستطيعَ الاستفادةَ من الفرصِ الموزعةِ على جوانبه ، نعم اننا لا نستطيع - عادة - تغييرَ مجرى نهر التاريخ ، و لكننا نستطيع – اذا تتبعنا مسيرتَه بدقة – ان نحفرَ القنواتِ المناسبةِ على جانبيه ، علنا نُصلح الارضَ البور فنُخرج من رحمها نباتاً طيبا
( و من آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا انزلنا عليها الماء اهتزت و ربت ... ) .