لعل المجتمع السعودي كله قد تابع - وأنا مثلهم - قصة الطفلة ريهام الحكمي ، وهي المريضة التي نُقل إليها دم ملوث بالإيدز إلى حين إعلان عدم إصابتها بالمرض - ولله الحمد والمنة - .
لعل أكثرنا ينظر بعين ازدراء ونقمة تجاه ذلك الشاب الذي قد ضخ في وريد هذه الطفلة - دون قصد - تلك الفايروسات الخطيرة ، ولكن - والحق يُقال - بأن ذلك الشاب كان له وجه آخر وضاء ، يستحق النظر إليه ، والتأمل فيه .
بدءاً ودرءاً ، فإن الخطأ لا يُنكر ، ويستحق ذلك الشاب - إن كان المسئول الأول عنه - توبيخاً مهنياً ، وتحويلاً إدارياً لقسم آخر هو بعيد عن الدم ومشتقاته أو مباشرة الحالات المرضية ومواجهتها ( عمل إداري مثلاً ) .
ولكن خطأ هذا الشاب يُقابله تصرف آخر له كان هو - بعد الله - سبب نجاة الطفلة رهام حكمي من هذا المرض المخيف .
قبل أن نقول ماذا فعل هذا الشاب ؟ فإنه يجدر بنا أن نتثقف طبياً عن هذا المرض :
في مجال الأمراض المعدية وتحديداً مرض الايدز فإن هناك دواء يُسمى " العلاج الوقائي " وهو علاج يُستخدم فور الاشتباه بالإصابة بمرض الايدز ، وفي حال أنه استخدم في ظرف 72 ساعة من الاشتباه فإنه - بإذن الله - يحمي من الإصابة حتى ولو دخل الفايروس للجسم .
أما كيفية حمايته ، فتكمن في منع الفايروس من الالتصاق بخلايا الشخص ومن ثم تكاثرها .
كان هذا الشاب يستطيع أن يصمت ، وأن يترك الطفلة تلاقي مصيرها المجهول ، خاصة أنها كانت مريضة بمرض آخر يستلزم معه نقل الدم بشكل دوري إلى جسمها ، وبهذا يضيع الفايروس بين القبائل التي كررت لها نقل الدم ... وحتى لو قلنا بأنه من الممكن الاستدلال على هذا الفني ، فإن إجراءه السريع وقراره الأسرع - دون تفكير بالعواقب - يمنحنا نظرة إنصاف له !
فماذا فعل هذا الشاب ؟
لما عادت الطفلة إلى منزل أهلها اكتشف فني المختبر خطأه القاتل ، وعلى الفور اتصل بإدارة المستشفى وسلمهم نفسه ومصيبته ، ثم كان الاتصال بالدكتور محمد الحازمي ( البطل الثاني في قصة ريهام والذي اتخذ أخطر قرار في حياته المهنية ) والذي بدوره حضر من فوره إلى المستشفى !
كل دقيقة تعني سنوات من المصير ، والجوال لوالدها مقفل ، فكان القرار الحازم ، وهو توجه سيارة إسعاف إلى منزل والدها ، وانتزاع هذه الطفلة منه مهما كلّف الأمر !
هنا أنتقل لبطولة الدكتور محمد الحازمي ، والذي كان أمام حالة هي الأولى في تاريخ العالم الطبي ، والمتمثلة بنقل وحدة دم كاملة ملوثة بالايدز !
يقول الطبيب - بتصرف - لما وصلني الخبر دمعت عيناي أمام زوجتي ، وعلمت أني أمام قرار تأريخي ، لا يقبل إلا المغامرة ، ولا شيء إلا المغامرة !
الطفلة مريضة بالأنيميا المنجلية ، وهذا يعني بأن رفع سقف الدواء الوقائي سيكون على حذر ، وأيضاً المريض الذي نُقل منه الدم هو شخص غير معروف ، وهذا يعني بأني لا أعرف كم نسبة الفايروس في دمه ، ولا أدري هل إصابته حديثة أم قديمة ( هذا الأمر يتوقف عليه أشياء كثيرة ) !
المستشفى لا يوجد فيه انترنت للتواصل مع الهيئات الطبية العالمية ، وأحد الخبراء الأستراليين الذين أعرفهم من خلال المؤتمرات الطبية يقف فارق التوقيت بيننا عائقاً في التواصل ، فالساعة الآن عندهم في أستراليا تؤكد أنه لن يرد على اتصالي !
إنه قضاء الله وقدره أن أتحمل المسئولية الشرعية والقانونية والإنسانية أمام روح هذه الطفلة البريئة ، ولذا وصلت المستشفى وقد كان معي كل المسئولين ومعها اتصالات مباشرة من الوزير ، وكذلك منحي وتحميلي مسئولية الإشراف العلاجي ، والأمر كله بيد الله تعالى !
وضعت أمام طاولتي كميات متنوعة من العلاج الوقائي ، ومعها صعوبة اختيار العلاج المناسب ، لأن الطفلة مصابة بالأنيميا المنجلية ، استخرت الله تعالى ، وقررت الخطة العلاجية ، ووقعت عليها !
دقائق وتصل الطفلة بسيارة إسعاف ومعها أهلها في ذهول مما يرونه ، وتصحبهم كذلك ريبة من هذا الجمع الطبي والإداري الكبير ، ولكن لا بد مما ليس منه بد ، وأن هذا هو الخيار الوحيد أمامي ، ولا شيء سواه !
بدأت مرحلة العلاج الوقائي ، ومعها نوبة غضب كبيرة من أهلها - ومن ذا يلومهم ؟! - وكذلك تحاليل مستمرة لدمها !
هنا وقفة تدل على فطنة الدكتور محمد الحازمي ، وهي أن التحاليل المبدئية تثبت الإصابة ، ولكنه كان يرفض ، ويقول : نحن نحلل دماً مختلطاً بدم ملوث ، وسأستمر بالعلاج الوقائي لمنع التصاق الفايروس بالخلية أو الحمض النووي للطفلة !
كان الخط ساخناً مع مستشفى الملك فيصل التخصصي في الرياض ، والذين بدورهم قد أكدوا بأن ما يفعله الدكتور الحازمي في جيزان صحيح ، وأنه لا حل آخر سواه أصلاً ! وليس لنا إلا الدعاء له بأن يوفقه الله في مهمته الفريدة عبر التاريخ الطبي كله !
أنهى الطبيب الحازمي مهمته ، وحضرت طائرة من الرياض لنقل الطفلة إلى مستشفى الملك فيصل التخصصي ، ومعها بعد ستة أشهر يُعلن عن براءتها التامة من الايدز - بحمد الله تعالى أولاً ثم بشجاعة الفني ، ومهنية الطبيب الحازمي - ، وقد قرأت بأن هذه التجربة ستفتح آفاقاً طبية ، إذ إنها قد حدثت خطأ ، لكنها قد أعقبت صواباً .
( ملاحظة : لا أقلل أبداً من الخطأ الفادح الذي ارتكبه ذلك الفني ، ولكن قصته كما يقال عن القمر : وجه مضيء ، وآخر مظلم ) .
آيدن .