تنويه عن فتح القسطنطينية ... وقصة لقائي بالشيخ الألباني !

- 2 –

القسطنطينية إحدى مدن الاستثناء العالمية ؛ فهي مدينة ذات قداسة دينية ، ومَنَعة جغرافية ، وثقل تاريخي عتيد .

من ناحية الدين ؛ فإنّ القسطنطينية هي قبلة وكعبة طائفة الأرثوذكس النصرانية .

ومن الناحية الجغرافية ؛ فإن هذه المدينة هي المفتاح لبوابة أوربا الشرقية ، ولها أيضاً مخصصاتها العجيبة في ندرة الموقع ومتن الحماية .

أمّا عن الثقل التاريخي ؛ فإنها بكل اختصار : عاصمة الروم سياسة ، وكعبة النصارى ( الأرثوذكس ) ديانةً .

ولذا ؛ فإنّ الأوربيين ما زالوا حتى يومنا هذا يؤرخون بسقوط القسطنطينية لبدء نهضتهم الحديثة - كما أنهم يؤرخون بالثورة الفرنسية شريكاً لها في ذلك .

من لذيذ الخبر بأنّ الرسول – صلى الله عليه وسلم – قد بشرنا بأنّ كعبتي النصارى ستُفتحان على يد المسلمين ( القسطنطينية ، وروما ) ، وهذا يعني اضمحلال القوة الذاتية والوجدانية لهذه الديانة المحرفة بشطريها الأرثوذكسي والكاثوليكي – إلى أن يحين في الأرض نزول عيسى عليه السلام ، فيكسر الصليب ؛ إيذاناً بانتهاء هذه الأسطورة التليدة والعقيدة الفاسدة .

تتابعت بشائر النبوة عن هذه المدينة إمّا حفزاً لغزوها : " أول جيش من أمتي يغزو مدينة قيصر مغفور لهم " ، وإما بشارة بفتحها : " ستُفتح القسطنطينية وستفتح رومية ، قلنا : يا رسول الله أي المدينتين تُفتح أولاً ؟ قال : مدينة قيصر " .

ولذا ؛ فإن أمر فتح هذه المدينة العريقة قد كان شغلاً حاضراً في أذهان المسلمين المجاهدين منذ عهد الصحابة وتابعيهم ؛ فغزيت في عهد معاوية – رضي الله عنه – تحت إمرة ابنه يزيد ، ودُفن تحت أسوارها في تلكم الغزوة سيدنا أبو أيوب الأنصاري .

كما قد غزاها سليمان بن عبدالملك وأقسم ألاّ يرجع إلا بعد فتحها أو أن يموت قبل ذلك .. فكانت هي الأخرى .

ثم جاء بنو عثمان الكرام ، فحاول السلطانان بايزيد الأول ومراد الثاني فتح هذه المدينة ؛ لكن دون جدوى .

بعدها قد تحقق الحدث العظيم والدخول الكبير على يد السلطان العثماني محمد الثاني ، والذي قد لقب على إثر إنجازه العظيم هذا بـلقب " الفاتح " ؛ لأنه قد فتح القسطنطينية العتيدة التي استعصت على المسلمين ثمانية قرون .

في يوم الثلاثاء العشرين من جمادى الأولى عام سبعة وخمسين وثمانمائة للهجرة ؛ دوىّ نداء " الله أكبر" في جنبات كنيسة أيا صوفيا العريقة ، وحوّلت كنيسة الروم الباذخة إلى مسجدٍ أنيق ، فعمت قارة أوربا بأكملها رهبة شديدة ، وذهول عظيم ، ثم قد تغشاها من الهم ما غشيها !

أما أنا ؛ فإن مصدر الإشكال الذي قد تولّد عندي بخصوص فتح القسطنطينية إنما كان متعلقاً بحديث يُثني على قائد ذاك الفتح من جهة ، وسيرة أخرى عنه مغايرة قد دونت في بعض كتب التاريخ !

أما الحديث فهو : " لتفتحن القسطنطينية، فلَنِعْمَ الأمير أميرها، ولَنِعْمَ الجيش ذلك الجيش " .

وأمّا السيرة فإنها كانت على مشكلين ؛ الأول ما قد روي زوراً من أنّ محمد الفاتح قد قتل أخاه الرضيع ( كان عند السلاطين العثمانيين عادة سيئة بشعة : تتلخص في قتل إخوتهم فور استلامهم لعرش السلطنة ) ، والآخر كان في اعتقاد العثمانيين المتمثل بعقيدة الأشاعرة والماتيردية من جهة ، وشيء من التصوف من جهة أخرى ( يزيد وينقص بحسب حال الخليفة وزمنه ) ، وهو الأمر الذي جعل بعض المبتدعة يصحح عقيدة المتصوفة والأشاعرة والماتريدية اعتماداً على هذا النص النبوي .

كان سؤالي للشيخ الألباني – رحمه الله تعالى – هو عن هذا المشكل ؛ إذ كيف يجتمع هذا الثناء مع هذه المفارقة ؟

كانت إجابة الشيخ – رحمه الله تعالى - تتلخص بأننا ننظر في صحة الحديث ، وبعدها ننظر في صحة الرواية ، فإن صحّ الحديث فإنّه هو المُقدم .

بعدها قد جاءت إجابة تلميذه الخاطئة ؛ لتربكني أكثر فأكثر !

بدأت الأمور تنفرج ويسرى عني ؛ إذْ إنّ قصة قتل السلطان لأخيه الرضيع هي قصة مفبركة قد تتبعها الشيخ السدحان في كتاب له ، ومن ثم نقضها لبة لبة .

ثم جاء أول حل لهذا اللغز الغامض المتعلق بالمشكل الآخر ؛ وقد كان هذا الحل في مطالعتي لسطرٍ " يتيم " للشيخ المؤرخ الكبير محمود شاكر ( السوري وليس الأديب المصري ) في موسوعته التاريخية الشهيرة ، وهي قوله بأن هذا الفتح العثماني ليس هو المعني ولا المقصود بالأحاديث النبوية .

ثم جاءت فرجةٌ أخرى ؛ هي لما تأكدت بأن الحديث آنف الذكر الذي قد سألت الشيخ الألباني عنه إنما هو حديث ضعيف قد ضعفه الشيخ بنفسه ؛ وأن تلميذه قد أخطأ بمظنة صحته .

ثم بعدها توسعت المعرفة معي ؛ لأرى بجلاء ووضوح أن هذا الفتح العثماني المجيد لا تنطبق عليه مواصفات البشارة النبوية في الأحاديث الأخرى ؛ إذْ إنّها ( الأحاديث ) تنص على أن هذا الفتح يجيء سلماً لا حرباً .

وتفصيل هذا في الحديث المروي في صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((سمعتم بمدينة جانب منها في البَرِّ، وجانب منها في البحر؟)) ، قالوا : " نعم يا رسول الله" ، قال : (( لا تقوم الساعة حتى يغزُوَها سبعون ألفًا من بني إسحاق فإذا جاؤوها نزلوا ، فلم يقاتلوا بسلاح ، ولم يرموا بسهم ، قالوا : لا إله إلا الله، والله أكبر ، فيسقط أحد جانبيها ، ( قال ثور : لا أعلمه إلا قال : الذي في البحر ) ، ثم يقولون الثانية : لا إله إلا الله والله أكبر ، فيسقط جانبها الآخر، ثم يقولوها الثالثة: لا إله إلا الله والله أكبر ، فيفرج لهم فيدخلوها فيَغْنَمُوا ، فبينما هم يقتسمون المغانم إذ جاءهم الصريخ ، فقال : إنَّ الدَّجَّال قد خرج ، فيتركون كل شيء ويرجعون )) أخرجه مسلم .

وكذلك حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه – قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( عمران بيت المقدس خراب يثرب ، وخراب يثرب خروج الملحمة ، وخروج الملحمة فتح القسطنطينية ، وفتح القسطنطينية خروج الدجال )) أخرجه أحمد (5/245) ، وأبو داود في الملاحم ؛ باب في أمارات الملاحم (4294) ، وأبو عمرو الداني في "الفتن" (457) ، وقال ابن كثير في "النهاية" (1/94): "هذا إسناد جيد وحديث حسن، وعليه نور الصدق، وجلالة النبوة".

قال الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله تعالى - في "حاشية عمدة التفسير" (2/256) : " فتح القسطنطينية المبشّر به في الحديث سيكون في مستقبل قريب أو بعيد يعلمه الله - عزَّ وجلَّ - وهو الفتح الصحيح لها حين يعود المسلمون إلى دينهم الذي أعرضوا عنه، وأما فتح الترك الذي كان قبل عصرنا هذا؛ فإنه كان تمهيدًا للفتح الأعظم، ثم هي قد خرجت بعد ذلك من أيدي المسلمين، مُنْذُ أَعْلَنَتْ حكومَتُهم هناك أنها حكومة غير إسلامية وغير دينية، وعاهدت الكفار أعداء الإسلام، وحكمت أمتها بأحكام القوانين الوثنية الكافرة، وسيعود الفتح الإسلامي لها - إن شاء الله - كما بشر به رسول الله صلى الله عليه وسلم" ا هـ.

ومما لا شك فيه أن الانقلاب على الإسلام الذي قد أقدم عليه اليهودي الصنم " مصطفى كمال " كان قد أحدث لوعة في قلوب المسلمين ، وخيبة أمل كبيرة في ضمائرهم ؛ فقال عنه حافظ إبراهيم متألما :

أيا صوفيا حان التفرق فاذكـري = عهود كرام فيك صلَّوا وسلمـوا

إذا عُدتِ يوما للصليـب وأهلـه = وحلّى نواحيك المسيـح ومريـم

ودُقّت نواقيـسً وقـام مزمـر = من الروم فـي محرابـه يترنّـم

فلا تنكري عهـد المـآذن إنـه = على الله من عهد النواقيس أكرم

وعلى الجملة ؛ فإن هذا التوضيح لا يعني التقليل أو التهوين من العمل العظيم المجيد الذي قام به السلطان المجاهد محمد الفاتح – رحمه الله تعالى - ، وإنما هو فك لاشتباه ، وإيراد لمسألة .

ولعلي الآن أحيل إلى مبحث رشيق أنيق للباحث الشيخ إبراهيم الحقيل حيال هذه المسألة ؛ قد أجاد فيها الشيخ وتفنن ، وأخذت منها الكثير ولخصت : http://www.alukah.net/Sharia/0/1566/

هذا والله أعلم وأحكم ، وصلى الله على نبينا محمد .

آيدن .