فلان الـ ( ... ) حدّث أبي قائلاً :
قبل نحو أربعين سنة ؛ كان أن نزل في مدينتنا الصغيرة شيخ قبيلتنا القادم من إحدى قرى حائل ، فابتدره عندئذ أفراد القبيلة سلاماً وولائم إلا أنا ؛ إذ إن نزوله قد وافق عسرة يدٍ شديدة تحيط بي ، فصرت بين أمرين أحلاهما مر ؛ إما أن أحضر تلكم الولائم وأنا لا أدعوه - وهي منقصة ومسبة لو فعلتها - وإما أن أتوارى عن فعل الواجب - وهذه مثل صاحبتها أو هي أظلم فعالاً - !
أغلقت على نفسي باب بيتي ، ومن جاء يدعوني من فصيلتي فإني كنت أرسل أفراخي الضعفاء ليقولوا لهم : " والدنا مريض ، ولا يستطيع حضور الولائم ، فأخبروا الشيخ منه تحيته وسلامه " !
مكثتُ أياماً عدة أتوارى من القوم من سوء حالي ومجدبة يدي ، ولكنها أقدار الله نرضى بها ، ونسأل الله الأجر عليها .
بعد أيام عدة تيقنت في نفسي أن شيخ قبيلتنا قد غادر قريتنا ، إذ هدأ بابي من طرق أحبابي ، وهو – أي شيخ قبيلتنا – ليس من عادته أن يبقى أكثر من أسبوع في ضيافتنا ؛ فخرجت عندئذ من منزلي أبتغي الحرية بعد ذلكم السجن الاضطراري ، وما أن خطوت خطوات متجهاً نحو سيارتي إلا وشيخ قبيلتنا معه لفيف من أبناء العمومة قد أقبلوا نحوي ، فابتدرتهم مُسّلماً ومُرحباً ، ثم دعوتهم إلى المنزل – ولا شيء في المنزل سوى أطفالي البؤساء وزوجتي الكسيفة - ، فقال شيخ قبيلتنا : نعم ، فقد جئنا لعيادتك لما سمعنا بمرضك !
الوقت ضحى ، وأنا أمامهم الآن سليم قد تعافيت ، ولا مناص عن الغداء عندي ، فأدخلتهم المجلس ، وقلت لهم : غداؤكم عندي ، وهيهات أن تفلتوا من يدي ، فتعذروا قليلاً ، فألححت كثيراً ، فوافقوا ، ثم قالوا : سنذهب لبعض أمورنا ، وموعدنا عندك بعد صلاة الظهر !
خرجوا ، ثم مكثت وحدي في مجلسي؛ لا أدري أيهما يغلبني أكثر : الفقر أم الحياء !
قذفت بأحزاني خلف ظهري ؛ فلا وقت للتفكير بشيء سوى كبش سمين يحفظ دهنه ماء وجهي !
ركبت سيارتي هائمًا بلا وجهة ، فلا ريال في جيبي أملكه ، ولا شياه عندي أروغ إليها فآتي بهذا الكبش السمين !
على أية حال؛ مضيت في سيارتي أجوب طرقات مدينتي الصغيرة ، أتنزّل الإلهام ، وأتطلب الحلول ، حتى هداني خاطري إلى اسم قريبٍ لي كان صاحب مال ، فعمدت لحظتئذٍ نحوه ، ثم طرقت بابه ، وأخبرته بأمري وشأني ، فقال : لا شيء عندي أقدمه لك !
تنهدت ، ثم خرجت إلى سيارتي مرة أخرى ، الوقت يمر ، والرجال في طريقهم إلي بعد الظهر ، واليد عسراء ، والعرق يتصبب من جبيني ، ووجهي قد انكمش كأنما صار خرقة سوداء ؛ فيارب فرجك ولطفك ورحمتك !
مضيت بسيارتي ، أقبض مقودها بيد ، وأنتف لحيتي بيد ، تدور عيناي كما المغشي عليه من الموت ، وقد يبس ريقي ، وازداد نفسي ، وبردت أطرافي ، فنزل في روعي حينئذ دون مقدمات تسبقها اسم جارنا " سعود الشمري " ، وهو رجل كريم ، وله في الشياه بيع وشراء ، فذهبت إليه فوراً ، وطرقت بابه وقد اشتد الضحى ؛ فخرج إليّ ، فحيّا ورحّب ، وهشّ وبش ، وأنا ساعتئذ عنه مشغول ، قد ضاقت علي الأرض بما رحبت ، ولا أرتجي من هذه الدنيا إلا سُلفة أو ديناً يسترني عند قومي ، ويحفظ لي ماء وجهي ، ولا يعيّر بعده أبنائي بي !
أدخلني سعود إلى المجلس ، وقدم لي القهوة والشاي – وأين أنا وذلك ؟! - ، ثم خرج من عندي لا أدري أين هو ذاهب ، فلا أنا حدثته بأمري ، ولا هو قد سألني عن سبب زيارتي هذا الوقت ، فجلست في مجلسه صامتاً أهيئ الحديث مقدمةً لسلفةٍ من مال أو حياةٍ من كبش !
وفيما أنا غارق في لجج الهم ، وصُنع الكلام ، إذا بي أسمعه خارج المنزل يقول بصوت جهوري كان يبتلعه لئلا أسمعه : " شيلي يا مال الغنيمة " !
يقول مكثت قليلاً ثم خرجت إليه ، فإذا به يربط كبشاً سميناً في حوض سيارتي ، وزوجته حول السيارة بعد أن ساعدته على حمل هذا الكبش ودفعه إلى حوضها ، فتقدمت نحوه مُتعززاً : " ما هذا يا سعود " ؟! فقال – وهو الذي قد حسّ حاجتي وشعر بحرجي – : " قد رزقنا الله بولد قبل مدة ، وهذه عقيقة نهديها لك ، والأخرى لنا " !
خرجت من عنده بسيارتي ، وعيناي نضاختان بالدمع ، شكراً لله الرحيم أولاً ، وشكراً – بعد ذلك – لجاري الوفي الكريم !
وصلت منزلي وقد تنفست الصعداء ، فذبحت ذبيحة أضيافي ، وأمرت زوجتي أن تجهز لهم الغداء ، فوصلوا بعد الظهر ، وتناولوا كرامتهم ، وأما أنا فكنت أبتلع ريقي قائلاً لنفسي وللكون : " لا أنساها لسعود " !
آيدن .