قصّة عجيبة ؛ سندها هو : عني شخصياً ، ثم عن أبي ، ثم عن صاحبها مباشرة ، فإليكم هي الآن دون زيادة أو نقصان :

مفرّج بن بليهيد هو أحد أبناء قبيلة عتيبة العريقة العظيمة ، وتحديدًا من ذوي ثبيت من الروقة ، كان ( مفرج ) في عنفوان شبابه قد ابتلي بشرب الدخان ، ومضى عليه في صحبة هذه الآفة زمن طويل . يقول مفرّج : كنّا بمعية الأمير عمر بن ربيعان رحمه الله تعالى ( شيخ الروقة من عتيبة ) ، فنادى بنا ذات يوم لأن نصحبه في زيارته الشيخ العلامة عبدالعزيز بن باز – رحمه الله تعالى – وهو بمكة آنئذ . يقول : دخلنا عليه ؛ فاستقبلنا كعادته – رحمه الله تعالى – بالترحاب والسرور وكرم الضيافة . فبدأنا السلام عليه واحداً تلو الآخر ، والتعريف بأنفسنا ، ومن حُسن حظي بأنّ رائحة الدخان حينئذ كانت تفوح من ثيابي ! دار الحديث في مجلس الشيخ ، ومعها القهوة ، والعود ( الطيب ) ، ثم استأذن بعدها الشيخ الأمير عمر بن ربيعان – رحمه الله تعالى – للانصراف والخروج ، فصحبه الشيخ إلى بابة المنزل ليودعه ؛ تقديراً للشيخ عمر ، وإنزالاً له على منزلته ، وفيما الجميع يُقبل رأسه هاماً بالخروج ، إذا به يمسك يدي لما سلّمت عليه ، ومن ثم يسحبني للوقوف إلى جواره ، وبعدها أكمل توديع الباقين وهو على حاله ممسكًا بيدي ، فعلمت أنه يريدني لأمر ! ولما أن أنهى الشيخ ابن باز سلامه وخرج جميع الضيوف من فناء المنزل ، قام رحمه الله فأمسك بيدي ، ثم أسرّ لي قائلاً : " يا بني ؛ لو كان فيه خير [ الدخان ] لم تسبقنا إليه ، ولكني أسأل الله جلّت قدرته أن يعصمك عنه " . يقول مفرج – رحمه الله تعالى - : استحييت من الشيخ ، ثم جاملته بكلام عام ، وأدعية عامة بأن يعصمنا - تعالى - عمّا يغضبه ، وبعدها قبّلت رأسه ثم خرجت . تفرق الجمع بعد هذه الزيارةالميمونة ، واشتاقت نفسي إلى شرب الدخان ؛ فأخرجت علبته ، ثم استخرجت سيجارة منها ، وأشعلتها في فمي ، فلما أن استنشقت أول نفَس منها : إذا بنارٍ تضرب كبدي لم أطق الصبر لها ، فأطفأتها حالاً ، ولم يخطر في بالي لحظتئذ أي شيء ؛ إذ إني ظننت هذا الألم يعود لأمرٍ ما قد حال دون تلذذي المعتاد دومًا بشرب الدخان ! يقول : بعد مضي وقت على هذا الألم ، أعدتُ الكرّة مرة أخرى ، فإذا بشوط نار كان أقوى من السابقة يضرب مرةً أخرى كبدي ، فأطفأتها ! بعدها بساعات ، أعدت الكرّة ثالثة ، فأحسستُ بما هو أعظم من السابقتين في كبدي ، فرميتُ عندئذ علبة الدخان ، ثم قلتُ فوراً : أصابتني دعوة الشيخ ! ومن حينها تركتُ الدخان إلى غير رجعة . يُضيف مفرج قائلًا : بعد مضي عام أو عامين ، خرجتُ إلى الحج بمعية الشيخ عمر بن ربيعان – كما هي عادة بادية الروقة من عتيبة - ، وفيما أنا في مزدلفة ، إذا بي أرى الشيخ ابن باز – رحمه الله تعالى – منحنيًا إلى الأرض يلقط حصوات رمي الجمرات ، فعمدتُ إليه فوراً ، ثم قلت : " السلام عليك يا شاخ " ! يقول مفرج : ما أن سمع الشيخ ابن باز صوتي ، وبالرغم من هذه المدة الطويلة نسبياً ، ومع أنه لم يلتقِ بي إلا مرةً واحدة في حياته ، إلاّ أنه فوراً قال لي : " وعليكم السلام .. مفرّج ( بصيغة الاستفهام والتأكد ) ؟؟ " !!! يقول : فعجبتُ في نفسي من هذه الذاكرة التي لم تخطئ صوتاً عابراً كان قد مرّ على مسمعها للحظات سريعة قبل عام أو عامين ! على أية حال ؛ قلت للشيخ – الحديث لمفرج - : نعم أنا مفرج يا شاخ ، وثمة قوم معي يفرحون بك ، وأنت لا شك ستفرح بهم ، فما رأيك لو صحبتني إليهم ؟ فقال ابن باز : من هم ؟! فقلت : الشيخ عمر بن ربيعان ! يقول : فتهللت أسارير الشيخ ابن باز – رحمه الله تعالى – ثم قال : على بركة الله ؛ خذ بيدي فلنمض إليهم ! يقول ابن بليهيد : ولم يدر عمر بن ربيعان إلاّ وأنا أزف له الشيخ ابن باز بيدي ؛ فلا تسل عن فرحة الاثنين ببعضهما !

ثم أما بعد ؛ فهذه قصة لطيفة ، أرويها على مسئوليتي وذمتي ، نقلاً عن أبي ، عن مفرج بن بليهيد مباشرة ، ومن أراد التأكد من صحتها – ومن حقه هذا – فإني سأسعى جاهداً للوصول إلى أبناء مفرج رحمه الله تعالى . رويتها تعطراً بذكرى الشيخ ابن باز ، ورجوتها أجراً للترحم عليه .

آيدن .