" ونتيجة لهذا، لم يحدث لي أن ألقيت محاضرة بعينها مرتين، ولم أقم بتسجيل محاضرةٍ ما في صورةٍ دائمة، بل بقيت محاضراتي على حالٍ من السيولةِ حتى اقتضت ضروراتُ الكتابةِ والنشرِ تجميدَها، وليس التجميدُ حميداً لديّ، ولكنه لا مفرَّ منه، ورجائي أن يقوم بين قُرّائي من يُسَيِّل جمدَ الكلماتِ المطبوعة، ويعطيها من عنايتِه النَّقديةِ حياةً جديدة".


جورج سارتون، من تمهيده لكتابه الضخم #تاريخ_العلم.

----------

🌸هذا النصُّ جميل شكلاً ومعنى، ولنتحدث عن معناه فهو ما يعنينا هنا: 


إنه درسٌ بليغٌ عميق، ولا يصدر إلا عن عالِمٍ حكيمٍ متبحرٍ أدرك حجمه إزاءَ سعةِ الكونِ والمجتمعِ، وإزاءِ تعقيدهما... الدرسّ يقول :


 لا قداسةَ لا لشخصٍ، ولا لِنَصٍ بشري، ولا لفكرةٍ بشرية، الحياةُ أوسع، وأعقد، من حبسها في فكرةٍ أو نظريةٍ واحدةٍ وحيدة.


 🌸وهذه ليست عدمية، أو عبثية، أو ما بعد حداثية نفقد معها ثقتنا بأي مركزٍ ومرجع، وتحرمنا من الأفق والأمل في التغيير والتجاوز، وتزرع فينا اليأس من أي عملٍ جماعيّ. 


🌸كلا. أبداً؛ بل هي دعوةٌ للتعديلِ والتطويرِ والتجديدِ باستمرار. التعديل والتطوير والتجديد باستمرار، بسبب استمرار التغير في حياة البشر، وبسبب اكتشاف الجديد دائماً، أو، على الاقل، بسبب الإمكانية الدائمة لاكتشاف الجديد، سواء كان هذا الجديد معلومات عن شخص معين، أو عن قضية معينة(نص جديد حفرية جديدة، رؤية الأمور من زاوية جديدة ... الى آخره إلى آخره) ...


 وكلُّ هذا - دائماً- في سبيل التغيير نحو الأفضل، وليس لدفعنا إلى اليأس وفقدان المرتكز والرؤية ... 


🌸كلُّ الكبار أدركوا ذلك. أما الصغار، فإذا ما كتبوا كتاباً، أو حازوا على لقب، ملأ ضجيجُهُم الدنيا... !.

 

🌸كان ماركس يرفض أن يسمى ماركسياً، وكان الأئمةُ الأربعةُ يشككون بآرائهم، بديمومتها وبصحتها، بإمكانية عبورها للزمان وللمكان، إنّ آراءهم (غير) "صالحة لكل زمان ومكان" ككل نص ورأي وموقفٍ بشري.  


وهكذا كل العقول الكبيرة الحكيمة، صاحبة الضمير الإنساني الحي (اسمحوا لي ان أؤكد على صفات الحكمة، والضمير الحي والإنسانية، لأن هناك من الأذكياء، والباحثين، من فقدوها فاستخدموا عقلهم في إبادة البشر أو تطويعهم وتذييلهم).


🌸 إن من صَنَع التعصب والجمود هم الأتباع. (ذكَّرَني بذلك اليوم نصٌ جميل للصديق Saleh Hamdouni راجعوا صفحته إن شئتم)؛ إن التعصب صناعة من تدفعهم المصلحة، والموقع والوظيفة، لتجميدِ النَّصِ وتأبيدِه، فإذا به يُخَلَّد جامداً، وبشكل معين محدد : 


شيعة، سنة، منهاج الفرقة الناجية، عقيدة فلان، عقيدة علان، فهمٌ معين لماركس (يرفضه ماركس نفسه)، منهجٌ جامد في الفلسفة (التي لا تقبل الجمود أصلاً)، طريقةٌ معينةٌ في دراسةِ المجتمع (الذي لا يكف عن التغير)، مدرسة معينة في تحليل النفس البشرية(المتقلبة كالقدر على النار).. الخ الخ. من أشكال الجمود التي رفضها الكبار أنفسهم، وشاءت الصراعاتُ الاجتماعيةُ السياسيةُ الاقتصاديةُ أن تتبناها وتخَلِّدها، لتخلِّدَ معها، وبواسطتها، مشروعيتها وهيمنتها.


🌸إنّ من نحترمهم(نحن، من ندعوا إلى حياةٍ أكثر إنسانية ترفض الوضع القائم الظالم، في كل العالم تقريبا)، من نحترمهم، حتى اليوم، من العلماءِ والمفكرين والمناضلين الكبار، هم المستعدون للتغيير، بل : هم دعاة التغيير؛ لكن أي تغيير ؟:


إنه التغيير من أجلِ التطور، التقدم نحو الأفضل إنسانياً، التغيير المحكوم بالمراجعة، المراجعة الموضوعية. لا التغيير الإنقلابي الذي يقوم به المتلونون كالحرباء، ولا التغيير الذي يقوده الانتهازيون الذين يسبحون بحمدِ كلِّ طاغية، الراكبون لكل موجة، البائعون لأنفسهم وضمائرهم، كلا. بل هو التغيير الذي يكون هدفه " السعي نحو الكمال الإنساني" - مستوحِين باولو فريري- الذين يريدون خدمة البشرية، والوقوف ضد الظلم، وتعريته، وتعريةِ سردياتِه ومؤسساتِه، مع ما يتطلبه ذلك من متابعةٍ للتغيرات والتطورات، وللمراوغات، التي تقوم بها السلطات الحاكمة، والفئات والطبقات المسيطِرَة، لتأبيدِ نفوذِها وحكمِها وسيطرتِها.


🌸هذا التغيُّر بحكم الطبيعةِ البشرية، الفردية والاجتماعية، وهذا التلون، وهذه المراوغة، كل هذا وهذه، تحتاج الى متابعة، وتطوير في الأدوات والنظريات من قبل الباحثين عن الأفضل إنسانياً. هكذا فعل هيغل وماركس، لينين وماو، مهدي عامل وسمير أمين، هكذا فعل العظيم غرامشي. وهكذا فعل الكبار في الحضارة العربية الإسلامية (انظر كتاب النزعات المادية في الإسلام لحسين مروة. واقرأ سير الصوفية الفلاسفة، واقرأ تاريخ الحركات الاجتماعية في التاريخ العربي الإسلامي، اقرأ هادي العلوي، وغيرهم، لترى تاريخاً آخر، تاريخاً اجتماعياً سياسياً ثقافياً تم طمسه) .... الى آخر هذه الكوكبة من الأفذاذ، الذين لم يؤجروا عقولهم، بإخضاعها للسائد، ولم يقبلوا أن يكونوا هم أصناماً أيضاً. بل ظلوا يدرسون طوال حياتهم، ويطورون رؤاهم. في سبيل التغيير المنشود في حياة البشر، وليس لعدميتهم.


🌸أؤكد على ذلك - أنهم ليسوا عدميين عبثيين في رفضهم للجمود - لأن كلامي- وهو كلامهم طبعاً وأصلا، كلامهُم بالنصِ او بالمعنى والروح - ليس معناه السيولةَ المطلَقة للأفكار والمواقف، ولا معناه رفض المنهج والمرجعية، ولا معناه بث اليأس من التغيير، ولا هو دعوة لرفضِ العملِ بدعوى عدمِ جدواه، ولا معناه تعزيز الفردانية والدعوة إلى الخلاص الفردي ... بل هو تحذيرٌ من المطلقاتِ والتعميماتِ، وتقديسِ الأشخاصِ والأفكار، إنه تحذيرٌ من الجمود، ودعوةٌ إلى تفعيلِ دورِ العقلِ والنقد، النقد للذات قبل نقد الآخر.


#خواطري_علاء_هلال 

#كتب_علاء_هلال