منذ سنوات وأنا أتساءل إن كان الشاعر الكبير مظفر النواب حياً أم ميتاً، ولم أعثر على الجواب القاطع إلا عندما توفيَ الأسبوع الماضي، كانت وفاته - رغم أنها عملياً واقعة منذ حوالي ٢٠ سنة- صدمة بالنسبة لي، ليس فقط لأن شاعراً كبيراً، ومناضلاً عريقاً، قد توفي، بل لأنه توفيَ وكل ما انتقده باقٍ كما هو، بل لعلّه أسوأ بكثير، ٨٨ سنة  - هي عمر النواب - معظمها في العذاب والألم والمرار، وجوهر مآسينا كما هو... وهذا يدعو الى الإحباط والاكتئاب، أدرك أن التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لا تقاس بعمر الأفراد، إنها - للأسف - تتغير بشكل بطيء جداً، ربما امتد لقرون، لكننا بشر، لنا آمالنا وأحلامنا وطموحاتنا التي لا تنتظر قروناً، وهذه مأساة الإنسان الكبرى، محدوديته ...  ولعل النواب - وهو الانسان والشاعر المرهف الحس- تعذب من المفارقة والتناقض بين الواقع والمطلوب، بين طموحه كفرد كشخص، وواقعه كجزء من منظومة مجتمعية شديدة التعقيد، وثقيلة الوطء والخطى، وشديدة المقاومة للتغيير، هذا الاختلاف، بين طبيعتنا كأفراد وطبيعتنا كمجتمعات، تجلى في وفاة النواب عن ٨٨ عاما من اللاتغيير، او من التغيير البطيء الثقيل المعقد . . مما دفعني للتساؤل : أي قيمة لنضال الأفراد، وحتى الجماعات ؟! . وهو سؤال كثيراً ما يخطر في بال أي انسان يتصدى للشأن العام بالنقد في سبيل التغيير، فالمناضل انسان قد يتعب وقد يهدّه اليأس، وربما تجره المتاعب الى عتبات الاكتئاب أحياناً ... 


 والجواب على سؤال الجدوى من النضال هو- برأيي : 


 إذا كنا ننتظر تغيراً سريعاً في الواقع البشري، فلا قيمة لنضالنا كأفراد - على المدى المنظور او القصير - ...  أما إذا كان النضال هو دفاعاً عن قيمتنا كأفراد كبشر، كإنسان له رأي، وله الحق في الرفض، وله الحق في الحلم، فقيمة نضالنا - حتى على المدى المنظور والقصير -  كبيرة، فالمقاومة - بهذا المعنى - دفاع عن أخص خصائص انسانيتنا، دفاع عن قيمتنا كبشر، وليست - المقاومة - فقط للتغير الذي قد يستغرق عقوداً وربما قروناً ... وان كان هذا مهماً ومطلوباً .. 


 إن أمام الإنسان خياران :

 إما الرضوخ والخنوع، وهو بهذا يتخلى عن أخص خصائصه كإنسان، 

وإما أن يقاوم، فيكسب إنسانيته ...


 فرغم أن المقاومة- بمعناها الواسع جداً -  مكلفة جسدياً ونفسيا، إلا أن كلفتها أقل من كلفة الخضوع، فعدا عن تخلي الخاضع عن جزء مهم من إنسانيته، فإن الثمن الذي يدفعه الخاضع أفدح من الثمن الذي يدفعه الرافض .. فحتى السلامة والهدوء لا يملكها الخاضع أبداً، إن حياته ليست ملكاً له، فهو كالثور المربوط في الساقية، يجري بلا طائل، يسعى بلا توقف، يجري و يلهث في سبيل تأمين اللقمة، وفي عالم اليوم، يسعى وراء الوهم، وهم الثروة والشهرة ... الخ ، فلا يقبض الا الريح... بل إن أسس حياة الخاضعين المادية باتت اليوم مهددة، فطعامهم وشرابهم ودواؤهم في خطر ... فأي ثمن أفدح :


فرغم أنك خاضع، وعدا عن تخليك عن حقك في التعبير والرفض، وعن أحلامك، عن أجزاء أساسية من انسانيتك، عدا عن هذا كله، فأنت أيضا متعب، تدور وتدور وتدور، ويا دوبك توكل وتشرب وتتعالج.. فأي حياة هذه؟! .


رحل النواب، ولم يرى أثراً ملموساً ولا تغييراً جوهرياً، ولكنه بقي حياً كمقاوم، كإنسان، بقي منارة ونموذجاً للمناضلين، الباحثين عن حياة أفضل، الرافضين للواقع المر، شديد المرارة ...


نعم، في السنوات التي كنت أتساءل فيها عن النواب، كان مريضاً في عزلته، كان المرض ينهشه، ينهش أعصابه، ينهش جسده، كانت سنوات النضال، سنوات المعاناة من الفرق بين الحلم والواقع، بين الممكن والمأمول، بين حقه وأحلامه كفرد - إنسان، وبين واقعه المجتمعي/الاجتماعي كفرد- مسلوب الإنسانية ، قد تركت أثرها عليه  ...


 نعم، إن النضال مكلف جداً، يتعبك جسديا ونفسياً، ولكنه يبقيك إنساناً، وهكذا كان النواب حياً كإنسان، كان متعباً منهكاً منعزلاً، ولكن قلبه الكبير كان على حاله، قلب الإنسان الشاعر، قلب المناضل الصلب، متعب هو، ولكنه حي، ليست حياة البهيمة، بل حياته كإنسان حافظ - بنضاله ورفضه - على إنسانيته ... وغيره - أعداؤه- كانوا أحياءً، ولكنهم كالأموات، وعندما يموتون سيتحللون كجيفة، وسيظلون ملعونين إلى الأبد، أما هو، فهو حيٌّ حيّاً، وحيٌّ ميتاً، فطاب حياً، وطاب ميتاً .


#خواطري_علاء_هلال .