آ
آيدن

مستقل جدًا في الفروع ، منحاز جدًا إلى الأصول ! صفحتي على الفيس : https://t.co/DqvtdACREM

مدة القراءة: 5 دقائق

ليست كل الأحلام رؤوس مال المفلسين !


كرةً أخرى ؛ حدثني أبي قائلاً :

في عام 1388 هجرية ( 1968 نصرانية ) حدث أن علاقةً كانت قد نمت بيني وبين مفتش في وزارة الداخلية يُدعى " ناصر السعيد " .

كانت أيام الثمانينيات الهجرية بطيئة ، وهادئة ، وطاهرة ، تغمرها السكينة ، ويغشاها الأنس ، وتسكنها الرتابة ؛ ولذا فإنّ مسامرات الناس واجتماعاتهم تلكم الفترة كانت كثيرة جداً ومنوعة ومتكررة .

ولهذا كله ؛ فإنه ما من غرابة أن تستمع لقصص الأصدقاء الخاصة ، وأحوالهم الحياتية ، ومن أولئك كان " ناصر السعيد " وقصته الطريفة .

في ليلة ربيعية منعشة ، روى لأبي هذا المفتش الوزاري قصة ثرائه وإكماله تعليمه ؛ فقال :

عشت أواخر السبعينيات الهجرية وأوائل الثمانينيات حياة هي للبؤس والحرمان ألصق ؛ إذ كان الفقر وقلة ذات اليد وشظف العيش هنّ أبسط ما قد كنت أوصف به !

اشتغلت تلكم الفترة سائقاً لطلبة الجامعة ( جامعة الملك سعود ) ، ومن خلال هذا العمل كنت أصرف على أولادي الصغار وزوجتي ، وأيضاً معها قد كنت طموحاً لأن أكمل دراستي ، ولذا صرت أدرس في المساء ، وأعمل في الصباح .

تنفّست بي الأيام قليلاً لأُفجع منها بوفاة زوجتي الوفية ، والتي من سببها قد صرت أباً وأماً لهؤلاء الأطفال ( الأيتام ) الصغار !

بعدها بأسابيع لم أفطن إلا بجارٍ لي من أهل الشماسية ( إحدى مدن القصيم ) يطرق بابي ، ويطلب مني إعطاءه أولادي ليقوم وزوجته بالعناية بهم ... إلى أن يفرج الله لي بالزواج أو الرزق !

كان هؤلاء القوم من خيرة الناس مروءة ورحمة وكرماً ، وقد وصل بهم الحال أنهم كانوا يرفضون أن أصرف على أطفالي لما كانوا في رعايتهم تلكم الفترة .

انحنيت للأمر الواقع ، وفي وجهي كان يشتعل فرن الحياء من كرم هؤلاء النبلاء ، ثم إني قد انصرفت لعملي ودراستي ، سائقاً في الصباح ، وطالب علم في الليل .

ليلة غريبة ، استيقظت فيها من منامي فزعاً بسبب رؤيا قد رأيتها ؛ ملخصها أني رأيت نفسي وسط بيّارة صرف صحي مليئة بالأوساخ والقاذورات – أجلكم الله تعالى – غارقاً فيها كأشد ما يكون الغرق ، كلما هممت الخروج منها ، أُعدتُ فيها !

استيقظت ومعدتي تتقلب اشمئزازاً مما رأيت ،  وغايتي هي الاستفراغ من أقصى الجوف !

ذهبت إلى عملي ونفسي جدّ منقبضة ، وروحي منغلقة ، لكنه الفقر .. الفقر الذي لا يقرّ لك بالراحة !

كما هي عادتي قبيل الظهر ، كنت أجلس مع زملاء المهنة من سائقي الجامعة ، نتسلى بلعب " أم تسع " لحين خروج الطلاب ( أم تسع : لعبة شعبية قديمة شبيهة بالشطرنج ، تلعب بالأحجار الصغيرة على الأرض ، بعد رسم دوائر معينة فوقها ) .

لم يرعني وأنا على هذه الحال إلا صوت فرّاش مدير الجامعة ينادي باسمي في حِلَقِ السائقين ، ويطلب مني - بعد التعرف عليّ - الحضور فوراً إلى مكتبه ، وأن المدير بنفسه ينتظرني !

تعجبت من هذا الأمر ؛ إذ لا علاقة لي مباشرة بمدير الجامعة ، وهناك – أيضاً - فوارق مهنية وعلمية كبيرة تجعل مثله لا يدري أنّ في الوجود مثلي !

على أية حال ، مضيت مع هذا الرجل إلى مكتب مدير الجامعة ، لأفاجئ بمفاجأة أعظم وأكبر ... نعم يوجد في المكتب : رجل أسود بلباس مدني ، وبجواره ضابط تتلألأ فوق أكتافه نجوم ذهبية !

سألني مدير الجامعة : أنت فلان ؟ فقلت : نعم ! فالتفت للضيوف المحنكين ثم قال : هو ذا !!

أشار لي الرجل الأسود الضخم بيده نحو الباب ثم قال لي : تفضل معنا !!

ذهلت تماماً ، وأيقنت بأن الأمر هو فوق ما سأتوقعه أو أتصوره ، وتذكرت فورًا حلم البارحة الكريه ، ثم بدأتُ بعدها أستذكر كل خطأ قد فعلته في حياتي الماضية يجعل من مثل هؤلاء يأتون في طلبي !

خرجت معهما ، ثم ركبنا سيارة حكومية ، وفيها قد كان الرجلان صامتين صمتاً مطبقاً لم أشأ معه أن أسألهما ، ولم يتلطفا هما بإخباري عن شيء .

مضت بنا السيارة في شوارع الرياض التي أعرفها جيداً ، وظننت أن نهاية هذا المشوار هو مبنى للمباحث ، أو مركزاً للشرطة ، ولكن توقعاتي قد خابت كلها ، لأجد نفسي داخل قصر الحكم ( إمارة الرياض ) !

بدأت ملامح الأمر الجلل تتضح شيئاً قليلاً ، إذ إن هيئة الرجلين اللذين اقتاداني من عملي تشي بأمر مهيب لا أتخيل وقوعه ، ولكن المعطيات كلها تفرضه !

نزلت معهما دون حديث منهما لي أو مني إليهما ، ومضينا جميعاً في دهاليز قصر الحكم ، وحالي حينئذ كما لو قد كنتُ أُساق إلى الموت : مذهولاً ، مستسلماً ، لا أقوى على الاستنتاج ، ولا أستطيع التفكير !

وصلنا إلى مختصر كبير يشي بأنه مدخل وبابةٌ لصاحب منصب رفيع ، فتوقفنا فيه قليلاً ؛ ثم أُذن لنا بالدخول ، فإذا نحن أمام " سلمان بن عبدالعزيز" أمير الرياض !

وقف الضابط عن يساري ، والرجل الضخم الأسود عن يميني ، فيما كان الأمير منكباً على معاملات الدولة ، يقرأها ، ثم يشرح بقلمه عليها !

لا تسلني هذه اللحظة عن شيء ، فقد توقفت حركة الكون ، وجمدت الأشياء ، وصار على بصري غشاوة ، وأما عن ريقي فإنه كما صحراء لم تعرف قطر السماء يوماً من الأيام !

رفع الأمير رأسه بعد دقائق ، ثم سألهم قائلاً : أتيتم به ؟! فأجابوه بسرعة : نعم طال عمرك ، هو ذا !!

عاد الأمير مرةً أخرى إلى المعاملات يقرأها ، يشرح عليها ، في انهماك شديد أنساه وجودي ، إلى أن رفع رأسه بعد دقائق طويلة : أين ابن سعيد ؟ فقال الرجل الأسود : هو ذا طال عمرك !

كرةً أخرى ينهمك الأمير في معاملات الدولة ، لينساني محترقاً في لهب الانتظار والأفكار ، إلى أن وضع القلم أخيراً ، ثم رفع رأسه ، وأسند ظهره إلى كرسيه ؛ فقال : " ما فيه شيء يا ولدي إلا سلامتك ، ولكن أتتنا برقية من سفارتنا في الكويت ، تفيد بأن عمتك الثرية قد توفيت ، وأنها قد خلّفت وراءها ملايين الروبيات ( عملة الكويت سابقاً ) والعديد من المنازل والأراضي ، ولخوفنا من دخولها بيت المال الكويتي ، وصعوبة المعاملة بعد ذلك ، فإنّ إمارة الرياض قد ارتأت أن تسلمها لك بنفسك ، لتنهي إجراءات الإرث قبل أن يدخل بيت المال الكويتي ، كما وأننا عمّدنا سفارتنا هناك لمساعدتك فيما تحتاج" !!

لم أستطع أن أقول شيئاً أو أن أتفوه بجملة ؛ ومن أين لي بريقٍ يروي جملة مفيدة أو قوة تسعف لساني على الحركة ... لا شيء سوى أني قد قلت بصوت متحشرج : " يطول عمرك " !

خرجت بمعاملة الإرث من الإمارة ، وتوجهت إلى الكويت ، لأجد الملايين تنتظرني ، والبيوت ، والأراضي ، فرحمة الله عليك ، ثم رحمة الله عليك ، ثم رحمة الله عليكِ : يا عمتاه ! : )

عدت إلى الرياض ، وكافأت جيراني الأوفياء بمكافأة مجزية ، وأخذت أطفالي منهم ، ثم تزوجت ، وأكملت دراستي ، إلى أن وصلت إلى هذا المنصب الكبير في وزارة الداخلية ، مع مال طائل عريض لا أشكر عليه سوى ربي الرحيم المنّان ثم عمتي " الغالية " .

قلت : صدَق من قال - بعد الرؤيا التي رآها هذا الرجل في المنام - أن المال وصخ دنيا ! :)

آيدن .

آ
آيدن

مستقل جدًا في الفروع ، منحاز جدًا إلى الأصول ! صفحتي على الفيس : https://t.co/DqvtdACREM

أهلاً بكم في مدونتي! أنا كاتب شغوف أشارككم أفكاري وتجربتي في الحياة من خلال تدوينات أسبوعية. أستكشف فيها التوازن بين القيم والمغريات التي نواجهها يومياً، وكيف يمكننا أن نعيش حياة مليئة بالمعنى والعمق. انضموا إلي في هذه الرحلة الأدبية!

انضم الى اكتب

منصة تدوين عربية تعتد مبدأ البساطة في التصميم و التدوين

التعليقات