كرةً أخرى ؛ حدثني أبي قائلاً :
في عام 1388 هجرية ( 1968 نصرانية ) حدث أن علاقةً كانت قد نمت بيني وبين مفتش في وزارة الداخلية يُدعى " ناصر السعيد " .
كانت أيام الثمانينيات الهجرية بطيئة ، وهادئة ، وطاهرة ، تغمرها السكينة ، ويغشاها الأنس ، وتسكنها الرتابة ؛ ولذا فإنّ مسامرات الناس واجتماعاتهم تلكم الفترة كانت كثيرة جداً ومنوعة ومتكررة .
ولهذا كله ؛ فإنه ما من غرابة أن تستمع لقصص الأصدقاء الخاصة ، وأحوالهم الحياتية ، ومن أولئك كان " ناصر السعيد " وقصته الطريفة .
في ليلة ربيعية منعشة ، روى لأبي هذا المفتش الوزاري قصة ثرائه وإكماله تعليمه ؛ فقال :
عشت أواخر السبعينيات الهجرية وأوائل الثمانينيات حياة هي للبؤس والحرمان ألصق ؛ إذ كان الفقر وقلة ذات اليد وشظف العيش هنّ أبسط ما قد كنت أوصف به !
اشتغلت تلكم الفترة سائقاً لطلبة الجامعة ( جامعة الملك سعود ) ، ومن خلال هذا العمل كنت أصرف على أولادي الصغار وزوجتي ، وأيضاً معها قد كنت طموحاً لأن أكمل دراستي ، ولذا صرت أدرس في المساء ، وأعمل في الصباح .
تنفّست بي الأيام قليلاً لأُفجع منها بوفاة زوجتي الوفية ، والتي من سببها قد صرت أباً وأماً لهؤلاء الأطفال ( الأيتام ) الصغار !
بعدها بأسابيع لم أفطن إلا بجارٍ لي من أهل الشماسية ( إحدى مدن القصيم ) يطرق بابي ، ويطلب مني إعطاءه أولادي ليقوم وزوجته بالعناية بهم ... إلى أن يفرج الله لي بالزواج أو الرزق !
كان هؤلاء القوم من خيرة الناس مروءة ورحمة وكرماً ، وقد وصل بهم الحال أنهم كانوا يرفضون أن أصرف على أطفالي لما كانوا في رعايتهم تلكم الفترة .
انحنيت للأمر الواقع ، وفي وجهي كان يشتعل فرن الحياء من كرم هؤلاء النبلاء ، ثم إني قد انصرفت لعملي ودراستي ، سائقاً في الصباح ، وطالب علم في الليل .
ليلة غريبة ، استيقظت فيها من منامي فزعاً بسبب رؤيا قد رأيتها ؛ ملخصها أني رأيت نفسي وسط بيّارة صرف صحي مليئة بالأوساخ والقاذورات – أجلكم الله تعالى – غارقاً فيها كأشد ما يكون الغرق ، كلما هممت الخروج منها ، أُعدتُ فيها !
استيقظت ومعدتي تتقلب اشمئزازاً مما رأيت ، وغايتي هي الاستفراغ من أقصى الجوف !
ذهبت إلى عملي ونفسي جدّ منقبضة ، وروحي منغلقة ، لكنه الفقر .. الفقر الذي لا يقرّ لك بالراحة !
كما هي عادتي قبيل الظهر ، كنت أجلس مع زملاء المهنة من سائقي الجامعة ، نتسلى بلعب " أم تسع " لحين خروج الطلاب ( أم تسع : لعبة شعبية قديمة شبيهة بالشطرنج ، تلعب بالأحجار الصغيرة على الأرض ، بعد رسم دوائر معينة فوقها ) .
لم يرعني وأنا على هذه الحال إلا صوت فرّاش مدير الجامعة ينادي باسمي في حِلَقِ السائقين ، ويطلب مني - بعد التعرف عليّ - الحضور فوراً إلى مكتبه ، وأن المدير بنفسه ينتظرني !
تعجبت من هذا الأمر ؛ إذ لا علاقة لي مباشرة بمدير الجامعة ، وهناك – أيضاً - فوارق مهنية وعلمية كبيرة تجعل مثله لا يدري أنّ في الوجود مثلي !
على أية حال ، مضيت مع هذا الرجل إلى مكتب مدير الجامعة ، لأفاجئ بمفاجأة أعظم وأكبر ... نعم يوجد في المكتب : رجل أسود بلباس مدني ، وبجواره ضابط تتلألأ فوق أكتافه نجوم ذهبية !
سألني مدير الجامعة : أنت فلان ؟ فقلت : نعم ! فالتفت للضيوف المحنكين ثم قال : هو ذا !!
أشار لي الرجل الأسود الضخم بيده نحو الباب ثم قال لي : تفضل معنا !!
ذهلت تماماً ، وأيقنت بأن الأمر هو فوق ما سأتوقعه أو أتصوره ، وتذكرت فورًا حلم البارحة الكريه ، ثم بدأتُ بعدها أستذكر كل خطأ قد فعلته في حياتي الماضية يجعل من مثل هؤلاء يأتون في طلبي !
خرجت معهما ، ثم ركبنا سيارة حكومية ، وفيها قد كان الرجلان صامتين صمتاً مطبقاً لم أشأ معه أن أسألهما ، ولم يتلطفا هما بإخباري عن شيء .
مضت بنا السيارة في شوارع الرياض التي أعرفها جيداً ، وظننت أن نهاية هذا المشوار هو مبنى للمباحث ، أو مركزاً للشرطة ، ولكن توقعاتي قد خابت كلها ، لأجد نفسي داخل قصر الحكم ( إمارة الرياض ) !
بدأت ملامح الأمر الجلل تتضح شيئاً قليلاً ، إذ إن هيئة الرجلين اللذين اقتاداني من عملي تشي بأمر مهيب لا أتخيل وقوعه ، ولكن المعطيات كلها تفرضه !
نزلت معهما دون حديث منهما لي أو مني إليهما ، ومضينا جميعاً في دهاليز قصر الحكم ، وحالي حينئذ كما لو قد كنتُ أُساق إلى الموت : مذهولاً ، مستسلماً ، لا أقوى على الاستنتاج ، ولا أستطيع التفكير !
وصلنا إلى مختصر كبير يشي بأنه مدخل وبابةٌ لصاحب منصب رفيع ، فتوقفنا فيه قليلاً ؛ ثم أُذن لنا بالدخول ، فإذا نحن أمام " سلمان بن عبدالعزيز" أمير الرياض !
وقف الضابط عن يساري ، والرجل الضخم الأسود عن يميني ، فيما كان الأمير منكباً على معاملات الدولة ، يقرأها ، ثم يشرح بقلمه عليها !
لا تسلني هذه اللحظة عن شيء ، فقد توقفت حركة الكون ، وجمدت الأشياء ، وصار على بصري غشاوة ، وأما عن ريقي فإنه كما صحراء لم تعرف قطر السماء يوماً من الأيام !
رفع الأمير رأسه بعد دقائق ، ثم سألهم قائلاً : أتيتم به ؟! فأجابوه بسرعة : نعم طال عمرك ، هو ذا !!
عاد الأمير مرةً أخرى إلى المعاملات يقرأها ، يشرح عليها ، في انهماك شديد أنساه وجودي ، إلى أن رفع رأسه بعد دقائق طويلة : أين ابن سعيد ؟ فقال الرجل الأسود : هو ذا طال عمرك !
كرةً أخرى ينهمك الأمير في معاملات الدولة ، لينساني محترقاً في لهب الانتظار والأفكار ، إلى أن وضع القلم أخيراً ، ثم رفع رأسه ، وأسند ظهره إلى كرسيه ؛ فقال : " ما فيه شيء يا ولدي إلا سلامتك ، ولكن أتتنا برقية من سفارتنا في الكويت ، تفيد بأن عمتك الثرية قد توفيت ، وأنها قد خلّفت وراءها ملايين الروبيات ( عملة الكويت سابقاً ) والعديد من المنازل والأراضي ، ولخوفنا من دخولها بيت المال الكويتي ، وصعوبة المعاملة بعد ذلك ، فإنّ إمارة الرياض قد ارتأت أن تسلمها لك بنفسك ، لتنهي إجراءات الإرث قبل أن يدخل بيت المال الكويتي ، كما وأننا عمّدنا سفارتنا هناك لمساعدتك فيما تحتاج" !!
لم أستطع أن أقول شيئاً أو أن أتفوه بجملة ؛ ومن أين لي بريقٍ يروي جملة مفيدة أو قوة تسعف لساني على الحركة ... لا شيء سوى أني قد قلت بصوت متحشرج : " يطول عمرك " !
خرجت بمعاملة الإرث من الإمارة ، وتوجهت إلى الكويت ، لأجد الملايين تنتظرني ، والبيوت ، والأراضي ، فرحمة الله عليك ، ثم رحمة الله عليك ، ثم رحمة الله عليكِ : يا عمتاه ! : )
عدت إلى الرياض ، وكافأت جيراني الأوفياء بمكافأة مجزية ، وأخذت أطفالي منهم ، ثم تزوجت ، وأكملت دراستي ، إلى أن وصلت إلى هذا المنصب الكبير في وزارة الداخلية ، مع مال طائل عريض لا أشكر عليه سوى ربي الرحيم المنّان ثم عمتي " الغالية " .
قلت : صدَق من قال - بعد الرؤيا التي رآها هذا الرجل في المنام - أن المال وصخ دنيا ! :)
آيدن .