ما عالج الناسُ مثل الحبِّ من سقم = و لا بـرى مـثـلـه عـظـمًا و لا جسـدا
عندما كنتُ صغيرًا ، قرأت على كثير من جدران المقابر ، وأعمدة الإنارة ، وأسوار المدارس عبارةً تقول : الحب بلاء ، والعشق سم قاتل !
العجَبُ أن بعض كتبة هذه الجملة كانوا أطفالًا لا يدرون ما الحب ولا الإسهام !
صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا = إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهمُ
في المرحلة الثانوية تهيجت بين الجوانح آمالُ أن نُحِبّ أو نُحَبّ ؛ ولعل مرد ذلك - بعد طور المرحلة العمرية التي كنا نمر بها - يرجع لما سبَكهُ لنا وسكبَهُ علينا كتاب مادة " الأدب " الرائع في الصف الأول ثانوي ، وما قد تلاه بعد ذلك من إبحار شخصي في ثقافتنا العربية شعراً ونثرا !
ملكتَ قـلبي و أنـت فـيــــــه = كـيـف حـويـتَ الـذي حـواكـــا
لم أُجرب الحب – ولله الحمد - بمعناه العاطفي الذي يجيء على هيئة عشق بين فتى وفتاة – إلاّ أنّ الله قد يسّر لي صحبةً وقعوا في شرَكه ، وارتووا من سُمه ، وهاموا على دنياه ، بالإضافة لما دونته لنا مكتبتنا العربيّة من قصص وأشعار … كل هذا جعلني أعي تماماً معنى الحب ومعاناته !
لن أتحدث إليكم من الناحية " الشرعية " تأصيلًا وتوضيحًا لحُكم هذا " العشق " ؛ إذْ إني أزعم لكم المعرفة الأولية - إن لم تكن التامّة بأطرافه !
ولكني سأتحدث على طريقة أهل الأدب ، وغوائل علم النفس ، وشواهد ما قرأت … لأقول :
العشقُ سمٌ زعاف إلاّ أنّه لا يُحيي ولا يُميت ؛ ولعلّه نفَسٌ من جهنم : " يتجرعه ولا يكاد يُسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت " !!
وهو كذلك قيد الأحرار ، وهازم الشُجعان ، وحيلةُ أضعف خلق الله أركانا !
كما وأنه مذيب للمروءة ، وكسر في الرجولة ، وإهانة كبرى للعقل والكرامة !
وقد أحسن " المتنبي " في وصف حال من أوقف عمره على فَردٍ بقوله :
لو فكرَ العاشق في منتهى = حسن الذي يسبيه لم يسبه
العشق - يا سادة - حياةٌ خارج الحياة ، وهندام خارج الزي ، ولهوٌ يتراقص بين الحرام والحلال !
العشق بُخار الذهن الصافي ، ولكأ اللسان الطلِق ، ودَرَن الحياة السعيدة !
العشق والعشق والعشق … !!
ولقد تتبعت فيما بعد قصص من عرفتُ ومن لم أعرف ( الكتب والأشعار ) فوجدت هذا الداء مثل الوسوسة ؛ لا يخرج من القلب ، فمُقل منه ومُستكثر !
وبعد .. ولا أهمّ من بعد ؛ فهل لهذا الداء الدوي من دواء :
هل من طبيبٍ لداء الحب أو راقي = يشفي عليلًا أخا حزن وإيراقي !
نعم إنّ له أدوية كثيرة ، فبعد الدعاء والتعلق بالرحيم الرحمن : يجيء حلٌ رأيته في أصيحاب لي عرفتهم أو لم أعرفهم ( شعراء وكتّاب ) فألفيت هذا العلاج إن لم يكن ناجعاً : فإنه نوع خلاص وتوقف !
أتدرون ما هو ذا الدواء ؟!
إنّه " البتر " وفي الأيام مُتسع ، وللدهر سلوان !
فارحل يا مبتلى من دنيا الوهم ، وعش مع الناس منكوداً متألماً ، خير لك من أن تعيش بمفردك لذلك !
ارحل : وسيجعل الله لكل عسرٍ يسرا ، ارحل : ففي انصرام الأيام شفاء ، وفي عُقْبة الليالي عافية ، وفي رحمة الله - قبل كل شيء - مَنجد ومستغاث !
إنّ ميزة هذا الحل ( البتر والأيام ) أنّ دمَكَ سيطهرُ رويدًا رويدًا من هذا السم الزعاف ؛ إذْ إنّ بقاءَ المحبوب معك هو بقاءٌ للحب فيك ، فهو كما الطفل ينمو ويشب ثم يهرم بهرم قلبك ومشيب رأسك ، ولكن بعد ماذا ؟ بعد أن يكون قد أخسرك شبابك وماتع أيامك !
وقد أعجبني في ذلك قصةٌ وقعت للأديب المصري مصطفى صادق الرافعي، والذي لحِقَ على كرامته ، وعنفوان رجولته : فبترَ العلاقة ، واستلحق نفسَهُ بنفسِه !
ثمّ إنّه قد هاجَهُ الشوق بعد عشر سنين أن يزورَ تلكُم المحبوبة ( مي زيادة ) فماذا حصل ؟!
لقد تأنقّ كيما يتألقّ أمام محبوبته " القديمة " ! ومضى إليها يقطع الطريق هونًا وهمهمة ، فلمّا انتصف منهُ قَطَعَه بعقله ؛ ثم قال لصاحبه الذي كان معه : لقد غبتُ عن " مي " عشر سنين ؛ فلا بد أنّ الأيام قد غيّرت منها كما غيّرت مني . ثم عاد من فوره وانتهى أمرها من أمره !
نعم إنّ السنين نزحت بينهما نزحًا طويلًا ، ولذا لم يكبر الطفل (العشق ) بينهما ولا في رعايتهما ؛ فصار غريباً عنه وعنها !
وهذا هو العلاج … هذا هو العلاج لسرطان القلوب !
آيدن .