ينثر الاب (بذوره) في رحم الام ، فاذا ما وجدت احدى هذه البذور (الحيوان المنوي الوحيد الذي قدر الله له البقاء) تربة خصبة ( بويضة سليمة ) انغرست فيها ... تماما كما تنغرس البذرة في رحم ( امها ) الارض.

   و في ظلمات الرحم الثلاثة ( بحسب الوصف القراني الدقيق و المعجز ) تعيش البويضة مع الحيوان المنوي قصة حب مثيرة ، قصة تنقلهما ، معا ، من (طور) الى طور، و من ( خلق) الى ( خلق اخر ) اكثر تعقيدا، و ( الطور و الخلق و الخلق الاخر ) كلها تعبيرات قرانية ، و من اقدر من خالق البشر على رواية فصول ملحمة الخلق ؟ ... و في عالم النبات ايضا تمر البذرة في مراحل مختلفة فترسل جذورها الى الاسفل ، الى قاع الارض ، و ترسل ما سيصبح ساقا و اوراقا و ثمارا الى الاعلى ، باتجاه السطح .

   و كما تتغذى البذور مباشرة ، من خيرات الله المودعة في التراب ، يتغذى المخلوق الجديد من امه ايضا ، و لا ندري ان كانت مشاعر امه تصله مع هذا الغذاء ام لا : هل يفرح لفرحهاحين يخبرها الطبيب انها حامل؟ ، هل يشاركها قلقها و مخاوفها عندما يقترب موعد الولادة ؟ هل يشتاق الى رؤيتها كما تشتاق هي الى رؤياه؟ هل يتعب لتعبها من الحمل ؟ هل يحس بباطن راحتها ، الناعمة  المرتجفة ، و هي تمررها على بطنها و كانها تحاول ان تتواصل مع الهبة الربانية القادمة ؟ .

   و تحين لحظة الولادة ، و يدور راس الجنين باتجاه الممر الذي سيخرجه من ظلمات الرحم الى نور الدنيا ، و تشتد الام المخاض فتصرخ الام و تصرخ ، حتى ترى انت النور ، فترتاح هي ، و تبكي انت ، تبكي معلنا عن نفسك مخلوقا مكتملا صحيحا ... و كذلك تشق النبتة طريقها عبر التراب متوجهة الى السطح ،الى النور ... ترى هل تتالم ( الارض - الام )  كما تتالم امهاتنا عند الوضع ؟ .

   و تضم الام رضيعها الى صدرها ،  تضمه بحنان و رفق ، تغذيه و تحميه ... يا الله ما اضعف الام و ما اقواها في هذه المرحلة ، اعتقد انها ( بالرغم من متاعبها الجسدية ، و حساسيتها النفسية في فترة الرضاعة ) بالرغم من ذلك فهي على استعداد لمواجهة الدنيا كلها لو اجتمعت على ان تضر رضيعها ! ، و يكد الوالد ، ايضا ، و يتعب ، ليوفر لهما حياة كريمة ... و كذلك النبتة ، تورق ثم تزهر ثم تثمر ، و تبقى الثمرة ملتصقة بعائلتها ، بالشجرة ، تستمد منها الغذاء و الامان ، حتى تكبر و تنضج فتنفصل طوعا او كرها عن امها .

   تنفصل طوعا ... حين تشعر بنفسها ، بنفسها فقط ، فتعيش وحدها بعيدة عن عائلتها ، و لكن حياتها هذه غير طيبة ، لذلك سرعان ما تتعفن هذه الثمار الضالة و تتحلل دون ان ينتفع بها احد ... تماما كالابن العاق الذي يهجر امه و اباه باحثا عن مصلحته هو ، عن ذاته هو ، حين يعلو صوت ( الانا ) في داخله ، ناسيا ، او متناسيا ، تضحياتهما من اجله ، هذا الابن، كتلك الثمرة ، في الغالب لا نفع مرجوا منه ، لذلك يعيش وحيدا غريبا ، و ربما يموت كذلك ، و لكن بعد ان تطحنه عجلة الحياة طحنا ، و لا عجب ، فقد اختار ان يكون احد المتصارعين عليها ، و في حلبة الصراع هذه ياكل القوي الضعيف ، ياكله بلا رحمة ! .

   او تنفصل الثمرة كرها ... حين تمتد يد انسان جائع ، او عابث ، فيقطفها بقسوة، او بحنان ... تماما كما يترك الابن او البنت بيت العائلة ليشكلا بيتا جديدا يضيفان من خلاله سطورا الى قصة الحياة ، فهذه سنة الله في خلقه .

                                                                        ***

   و ننتقل في هذه اللحظة ( لحظة انفصال الثمرة عن الشجرة كرها ، و لحظة انفصال الابن عن والديه بشكل طبيعي ) ننتقل من عالم الارض الى عالم السماء ، فعلاقة الثمرة بالشجرة تنتهي عند الانفصال ، و لكن علاقة الابن بوالديه مختلفة ، فهي تشبه الى حد كبير نظامنا الشمسي ... دعونا نتامل :

تدور الكواكب حول نفسها ، و في الوقت ذاته تدور حول الشمس ، و كذلك يفعل البررة من الاولاد ، يسعون في مناكب الارض لتحقيق احلامهم ( و هذا هو دورانهم حول انفسهم ) و لكنهم ابدا لا ينسون الوالدين ، فهم يتفقدونهما ، يسالون عن احوالهما ، يدورون حولهما حيث دارا ، يدورون حقيقة لا مجازا ، تماما كما تدور الكواكب حول الشمس .

و حول الكواكب اقمار مضيئة ، و ابناؤك ايها ( الابن - الكوكب )  هم اقمارك ، هم اقمار بيت العائلة ، الا ترى النور و قد انتشر اذا دخل ابناؤك على والديك ؟ .

يا رب ... يا رحمان يا رحيم ... يا رؤوف يا ودود ... احفظ شموسنا ، و احفظ اقمارنا ، فبنورها المقتبس من نورك نرى ، و برحمتها المستمدة من رحمتك نصبح بشرا ، و نحس بالامان .