لا أدري لماذا تتوارى الموهبة عند فُشوِّ أسبابها !!

فبالرغم من هذا الانفجار المعرفي الكبير الذي نعيشه اليوم ، والقادم إلينا بوسائل كثيرة : كالانترنت والقنوات الفضائية والصحف والمجلات والدوريات ومَعارض الكتاب السنوية ... إلاّ أنّنا بالكاد نجدُ من كل هذا : ثمرةً شهيّةً نزدردها بلذّة وتطعم ... سواءً جاء هذا التطعم من خلال الأذن أو العين أو الإحساس !

حين كنّا أطفالاً قبل عقدين من الزمان ، كان عدد المذيعين في التلفاز السعودي معدودين ومعروفين ومألوفين !

ومع هذا فقد خرّجت لنا تلكم الحقبة : وجوهاً وأصواتاً تحمل في دواخلها كثيرَ موهبة - مع ما عاصرتهُ من ضعف تقنية وقلّة إمكانية ؛ ولكنّها مع ذلك ، فقد استطاعت أن تحتل من الذاكرة مكانها ، وفي النفس احترامها ، ومن الشجن شيئاً وشُوَيّاً !

فمثلاً ؛ قد استطاع إبراهيم الراشد ( رحمه الله تعالى ) ومن خلال صوته فقط : أن يجذب الكثير إلى مُتابعة حلقات " المصارعة الحرّة " ؛ وذلك بفضل تعليقه الفريد ، والمثير ، والممتع ، والذي قد اختار له أن يكون باللغة " الفصحى " في استثناء عجيبٍ منهُ : أن تُعلق للرياضة بها ، وفوق هذا : أن تأسِرَ لها جمهوراً ، وتسحبَ منه متابعةً وشغفاً ( نتكلم هنا عن الموهبة وليس عن الحُكم الشرعي في أمر المصارعة الحرّة ) .

وفي الجانب الإذاعي الرسمي ؛ فقد كان هناك المذيع اللامع ذو القسمات الجادة والصوت النقي الجميل " ماجد الشبل " والذي يستحق - ولو من باب الوفاء لطفولتنا - أنْ أُفردَ لهُ عذبَ حديث :

وُلد ونشأ في دمشق من أبٍ نجدي وأمٍ شاميّة ؛ وقد وصفَ – أي ماجد - هذا التباعد الجغرافي والتقارب النسبي عنده بقوله :

نجدُ أبي ودمشق أمّي وكلاهما = شكّل شراييني وأوردتي

هاتان البيئتان المتباعدتان أفادتا " ماجداً " وإن تشاكستا فيه منذ صرخة الميلاد ؛ إذْ إنّ والده أسماه يوم وُلِد " محمداً " وأُمهُ أسمته " ماجداً " فكان الأول على الأوراق الرسميّة ، والثاني للمناداة والشهرة الإعلاميّة ... وسبب هذا هو أنّ " ماجداً " قد أبى إلاّ أن يُرضي أمّه ولو بعد حين .

ليس هذا هو التشاكس الوحيد الذي كان والداه قد أورثاه له ؛ فثمة أمر آخر مميز ، وهو أن لهجته الدارجة قد غدت – بفضلهما طبعاً - مزيجاً مختلطاً بين الشاميّة والسعودية !

ويبدو أنّ هذه المشاكسة اللطيفة بين الزوجين المتحابين - قد أبت إلاّ مصاحبتهما حتى عند الموت وتوديع هذه الحياة ؛ إذْ أنّ والده – بحسب قول ماجد – متعصبٌ لموطنه ؛ ومع ذلك فقد دُفنَ في دمشق - فيما أنّ أمه متعصبة لموطنها ؛ ولكنها قد دُفنت في الرياض !

على أية حال ؛ فقد ذهبا والداه إلى رحمة الله ؛ فيما قد بقيَ في الابن منهما شركاء متشاكسون ؛ يُستذكران بسببهم على الدوام : فالاسم نجدي ، واللكنة شاميّة !

ابتدأَ حياته الإعلاميّة مذيعاً في التلفاز السوري لمدة خمس سنوات ، ومعلوم أنّ اللغة في سوريا ذلك الحين كانت أقوى بمراحل عنها لدينا ؛ وهذا مما يدل على تمكنه اللغوي والإعلامي ؛ إذْ ليس من اليسير أن تُثبت وجودك وسط " عمالقة" الإعلام السوري ذلكم الحين ؛ لولا أنك في الوقت ذاته تتملك الموهبة الفذّة والصوت المغري ... إلاّ أن ماجداً – مع كل هذا - قد قرّر العودة إلى وطنه ؛ ليبدأ من جديد !

وقد استطاع في مرحلته الجديدة ، أن يودع لنفسه في أرشيف الصور النمطيّة لدى المجتمع : صورةً عنه تحمل كاريزما خاصة به ، وتحظى معها بالاحترام والحنين والتقدير !

فمن منّا لا يذكر المذيع الصارم في نشرات الأخبار الرسميّة !

وفي المقابل : من في مجلسنا لا يهزهُ الشوق إلى استماع الشعر الرقيق من صوت " ماجد " العذبِ النمير ؛ والذي بسببه وافق على الفور الموسيقار المصري " محمد عبدالوهاب " تسجيل لقاءٍ معه ؛ بالرغم من أنّه لم ير ماجداً ولم يُقابله ؛ وإنما اكتفى بسماع رنّة صوته الموسيقية خلال الهاتف ؛ فأعجبته !

فيما لازالت برامجه القديمة من مثل " أبجد هوز " و " أبناؤنا في الخارج " وبرنامج المسابقات " حروف " تُشكل عند المجتمع السعودي برُمته : ذكرياتٍ اصطلحوا على تسميتها بـ " الزمن الجميل " !

وفي المقابلة بين زمنين ؛ فإننا نجد الآن صوراً غير مثيرة للانتباه عند كثير من مقدمي البرامج في تلفزيوننا السعودي ؛ فإنّك إمّا أن تلقى مذيعاً يحمل ميعةً في حديثه أو لباسه ، أو تجد آخر يُقدم برامجَ فكريّة – فيما ثقافته منها صفر ، أو ثالث لا يهتم إلا بظهور صورته وانتشار معرفته !

ومع أني قد قلتُ بداية مقالتي هذه أني لا أدري عن السبب في غياب الموهبة عند فشو أسبابها ؛ إلاّ أني لا أُعدَمُ شبْهَ إجابة !

إنّ شبه الإجابة التي عندي تقول بأنّ : أيّ مجالٍ بدء أمرِه ؛ يجتذبُ له محبيه حقيقةً !

ولكن ؛ وبعد أن يستوي على سوقه ، وتروج بضاعته ؛ فإنّ المُتطفلين عليه يُسارعون لقطف ثمرته ( الشهرة والمال والعلاقات ) من خلال فرض وجودهم فيه بأي طريقةٍ كانت !

ولذا ؛ فكم أتمنى أن يُعاد النظر في آلية انتقاء المذيعين لتلفازنا السعودي الذي لا أُشاهده :)

بقيَ القول بأنّ الأستاذ القدير " ماجد الشبل " قد أصيب بجلطةٍ حرمته وحرمتنا من صوته الرخيم .

نسأل الله له الشفاء والعافية ، وإني لأحبُ هذا الرجل وإن كنتُ لا أعرفه شخصياً .

آيدن .