مقدمة

كشفت الأحداث و التطورات الدراماتيكية ،  و المؤلمة ، التي شهدها عالمنا العربي في السنوات الماضية ، عن عوراتنا السياسية ،و الإجتماعية ،و الفكرية ، و وضعتها تحت الأنظار ليلا و نهارا ،  و أثبتت الحاجة الملحة لإصلاح الأعطاب التي أصابت معظم  أنظمتنا  و بنانا :  الفوقية و التحتية  ، الرسمية و الشعبية ، الفكرية و المؤسساتية ...

و هذا لا يعني أن عوراتنا هذه كانت مستورة ، و لكنها كانت في الماضي محلا للجدل الفكري ، و ساحة للاستقطاب السياسي ، و مادة للتراشق الإيديولوجي ؛ أما  اليوم، فقد أصبحت هذه العورات أكثر وضوحا و جلاءا ؛  لقد تضافرت  الأحداث التي مرت ، و الدماء التي سالت ، و الأوراق التي انكشفت ، تضافرت على كشف مكامن الخلل فينا   ، و تسليط الضوء على محل عوراتنا،  و جعلت هذا الخلل ، و تلك العورات، في حكم الحقيقة المؤلمة  ...

لكن هذه الأحداث - على مرارتها -  قد تمهد لنقلة  عربية نوعية  - على الأقل على صعيد الفكر ، و التخطيط ، و  العمل السياسي ،  و الإجتماعي المدني - و لكن هذه النقلة مشروطة  بأمور كشفت الوقائع ذاتها عن أهميتها الفائقة  :

الأمر الأول : هو التعاطي الحقيقي و الدائم ، لا الشكلاني التكتيكي ، مع القاعدة الواسعة و الصلبة ، القاعدة المتحررة من القيود القبلية و الطائفية و الحزبية ، و الإيديولجية . هذه القاعدة التي تحركت بعفوية ،  و دون أجندات جاهزة ، في معظم الساحات العربية على مدار السنوات السابقة . 

أما الأمر الثاني : فهو التفكير بمنهج نقدي تاريخي ، و التخطيط ضمن الشروط العربية الموضوعية  .

على أن يكون ذلك التعاطي ،  و هذا التفكير و التخطيط ، عملا عربيا جماعيا لا يقصي أحدا ، و لا يستثني جهة ، و أن يكون مقدمة لعمل مشترك ، على المستويين الوطني و القومي ، في الآن ذاته . 

إننا نظن أن لحظتنا العربية الراهنة، تقترب في أهميتها - من حيث آثارها المحتملة - من لحظات  مفصلية أخرى في  تاريخنا العربي الحديث و المعاصر   :  كلحظة الإشتباك الأولى مع الاستعمار ، و لحظة الهزيمة العربية الحزيرانية. 

لقد مثلت لحظة الهزيمة الحزيرانية - من وجهة نظر بعض اليساريين ، و معظم الإسلاميين و غيرهم-  هزيمة للمشروع القومي العربي . لكن هذه الهزيمة - و قبلها الإستعمار ، و التبعية ، و غيرها من مصائبنا- مثلت ، من وجهة نظر أخرى , هزيمة أعمق : إنها هزيمة لبنانا البالية : الفكرية ، و  الإجتماعية ، و السياسية ... 

و رغم أن هذه القراءات النقدية التاريخية ، قابلة للنقد -  من حيث منهجها و نتائجها - إلا أنها مثلت - من حيث المنهج و النتائج - نقلة نوعية في تاريخ الفكر العربي ، لكن تأثيرها كان ، و ظل ، محدودا ، حتى بين المختصين ، بل إن كثيرا من المثقفين و المفكرين هاجموا أصحابها ، و النتيجة : أن  هذه القراءات ظلت  محلا للجدل ، و الأخذ و الرد ،ولم يبنى على أساسها ، مع قابليتها لأن تكون أساسا لأبنية فكرية مختلفة، و متميزة . و بعد مرور أكثر من نصف قرن على تلك القراءات النقدية التاريخية (١)، جاءت الأحداث الأخيرة، فأقامت أدلة مادية متواترة على صحة نتائجها بشكل إجمالي ؛   لقد أثبت الفحص التاريخي السريري ، وجود علل فكرية خطيرة ، و أمراض إجتماعية مدمرة ، و تشوهات سياسية  بشعة ، تعيق الجسم العربي عن أداء عمله بكفاءة .

إذن : لقد آن الأوان للتخلص من هذه العلل ، هكذا قالت لحظتنا العربية الراهنة . و نحن ندعي أن هذا العمل -المفروض تاريخيا- قد أصبح اليوم أيسر؛ فهو ليس مطلبا تقدمه نخب سياسية أو فكرية ، إنما هو فرض تاريخي وجودي : فإما أن نغض الطرف عن عوراتنا ، و نظل ندفع الثمن باهظا : تخريبا و تدميرا و دماءا ... فلا نكون ، و إما أن نعالجها ،فنظفر بحياة سليمة نظيفة آمنة ، فنكون .

و أظن أن شبابنا - المتحرر من قيودنا ، المتخفف من أثقالنا-  قد استمع جيدا الى أنينا ، و رأى بأم عينيه حقيقة واقعنا  ، فقرر أن التغيير واجب ، فبدأ حراكه ، و لكن - و يا للعجب - ارتفع صوت الأنين فأصبح صراخا ، فأدرك - أو أتأمل ذلك - أن التغيير ليس ظاهريا : شوكة تخلع أو يد مكسورة تجبر ؛ كلا ، إن التغيير المطلوب جوهري : إنه  أبنية تعدل ، أو تغير ، أو تهدم  . و حتى لا نتهم بجلد الذات نقول : نعم إن جسدنا العربي تعرض - و يتعرض - الى تعذيب ، و تشويه ، و  تمزيق ممنهج ، و لكن ، لولا أن مناعتنا الداخلية ضعفت ، لما أثمرت المؤامرات الإستعمارية ثمارا شيطانية . لكننا نثق بقدرة هذا العملاق العربي على الصمود و التعافي ، فهو الذي أنجب جيلا حيا ، بعد أن ظننا أنه أصبح عقيما .

إنها لحظة الآلام بامتياز ، و لكنها أيضا لحظة الفرص و الآمال .  و لنبدأ بالآلام ، على وعد بأن نختم بالفرص و الآمال ، عسى أن تكون نهاية هذه الأحداث كذلك : نهاية سعيدة بعون الله :

عوراتنا الرسمية :

على المستوى الرسمي أثبتت الأحداث أن دولنا ( الوطنية ) - و أقول الوطنية تجاوزا فهي ليست كذلك في جوهرها - قد أصبحت في غاية الهشاشة ؛ لم تعد هذه الدول قادرة على مواكبة التطورات ، على الساحتين الداخلية و الخارجية :

فعلى المستوى الداخلي لم تعد هذه الدول تلبي الحد الأدنى من احتياجات المواطنين الأساسية ، خاصة مع تزايد الفجوة بين الأغنياء و الفقراء ، و مع ازدياد الفساد ، و تبجح المفسدين ، و اعتبار الوطن و ثرواته مكسبا حصريا لهذه العائلة أو تلك الجهة ...

لقد أسكرت خمرة السلطة هؤلاء حتى أصبحوا - بتصرفاتهم و سياساتهم... - خطرا على الوطن و المواطن ، و على من يراهن عليهم لخدمة مصالحه ( القوى الدولية) :

إن أنظمتنا لا تزال  تلعب بأوراقنا القديمة البالية ذاتها ؛ يتربع على هرم السلطة عائلات - أو ما يشبهها  ، في الجوهر و الفعل و التأثير السلبي - و تخوض هذه ( العائلات - الدول  )حروبا لا هوادة - و لا عقل فيها - من أجل تثبيت حكمها الذي أصبح - كما يبدو - خارج التاريخ ،أصبح خارج التاريخ حتى بمنطق من هندسوا هذه الدول ، و هم القوى الإستعمارية .

لقد احترقت أوراق هذه الأنظمة داخليا و خارجيا ، شاخت و ترهلت و استرخت ، و أصبحت تتصرف كالإنسان الذي خرف  ، و  وجب الحجر عليه .  و ربما دفع هذا الى التفكير - دوليا - بوجوب تغيير هذه الأنظمة - على الأقل شكليا - لضمان استمرارها قادرة على حماية مصالح الغرب ( و هذا - بالإضافة الى معطيات أخرى -  ما جعل البعض يشكك في وطنية الحراك الشبابي في السنوات الماضية ، و رغم وجاهة بعض هذه القراءات ، الا أن ذلك لا يمنع من اعتبار هذه التحركات - و أتحدث هنا عن الحراك العفوي الشعبي السلمي  ، و ليس عن الأعمال المسلحة و التخريبية - وليدة واقع موضوعي مأساوي . نعم ، قد يكون هذا الحراك قد استغل ، قبلا أو بعدا ، الا أنه يبقى - بتقديرنا ، و بشكل عام  - حقيقيا في جوهره ).

عورات غير رسمية :

هذا على المستوى الرسمي ، أما على المستوى الأهلي و المدني فالصورة أيضا لا تسر :  

فأحزابنا شاخت هي الأخرى ، و تجاوز التاريخ برامجها - البعيدة أصلا عن نبض الواقع - ، هذا ما نطق به لسان التجارب الواقعية الفصيح  : الناس في واد و أحزابنا في واد آخر ؛ تغني أغنية أخرى لا نفهمها ، و تعزف ألحانا لا تناسبنا ، و هذا ينطبق على أحزابنا كلها : يمينية كانت، أم يسارية ، اسلامية المرجعية، أم علمانية ... لا فرق ، لقد فضحت الأحداث الجميع ، و وضعتهم على ميزان الإختبار العملي فما رجحت كفتهم ، بل طاشت ، و شهدت الساحة العربية مفارقات غريبة جدا : إسلاميون يستعينون بالغرب الصليبي الكافر  ( كما يسميه الإسلاميون أنفسهم  )؟!!!! و علمانيون ليبراليون ، و دعاة الى المجتمع المدني ،  يدعمون العسكر  ، بل و يحرضونهم عل استخدام القوة ، و يقرعون حكوماتهم على تهاونها مع المخربين ( أي مع خصومهم السياسيين و الفكريين ) !!! . 

أما مثقفينا و مفكرينا - على مختلف مشاربهم و تنوع إشكالياتهم - فلا يزالون - إلا من رحم ربي يلوكون القضايا نفسها منذ قرون ، إنهم - رغم تفهمنا لذلك - مدفوعون الى التفكير بتخلفنا تحت ضغط الغرب السياسي و العسكري و الفكري ؛  و هكذا - كما يقال - ولدت اشكاليات الفكر العربي المعاصر ، و التي يمكن تلخيصها  - حسب بلقزيز ، كما  أذكر  - بإشكالية التقدم : كيف نتقدم ؟ . و كالإشكاليات ، كانت الإجابات أيضا ، مرتبطة  بالغرب عشقا و بغضا :

( ... في تضاعيف هذه الجدلية بين الأنا و الآخر تكمن المسألة الأساس في تاريخ الفكر العربي الحديث : انشداد الوعي العربي الى التأثيرات الخارجية ، حتى و إن حصل ذلك على نحو غير واع ، أو في سياق أشكال مختلفة من الممانعة الثقافية ، كما في خطاب الشيخ أو رجل الدين ( حسب تصنيف العروي لأنماط الخطاب العربي )) . ( بلقزيز ، من النهضة الى الحداثة ، ١٥٢).

نعم  منا من اعتبر أن الغرب - أنظمة و أفكارا - مثالا نموذجيا للتقدم  ، فدعانا الى الليبرالية ، أو الماركسية ... الخ دون مراعاة الظروف التي ولدت فيها هذه الأفكار ، بالتالي ، تلقفناها كما هي -  أو تعاملنا معها بانتقائية ، و أحيانا سطحناها ، أو حرفناها و شوهناها - ثم دعونا اليها فلم تسعفنا .

و آخرون - و تحت وطأة وثقل الغرب أنظمة و سياسات و أفكار  - رفضوا الفكر الغربي ، و استوردوا من الماضي أنظمة  ، و أفكارا ، كان - بعضها - ملائما لزمنه ، و كانت  - كلها - وليدة بيئة عربية إسلامية محددة  ، زمانا و مكانا . و هؤلاء -  كالحداثيين- لم تفلح إجاباتهم في الرد على سؤال التقدم . 

المدرستان - الحداثية و السلفية - فشلتا  إذن في الإجابة على إشكالية التقدم ، و الأشكاليات و الأسئلة التي أفرزتها ، فبرز آخرون - كعبدالله العروي و ياسين الحافظ  ، و غيرهم - فانتقدوا الجميع - سلفيين و حداثيين- معتبرين أنهم ما أفلحوا في قراءة الظروف التاريخية و الموضوعية  ، للعالمين العربي و الغربي ، ففشلوا  - حسب العروي و الحافظ- في وصف الدواء لمشاكله ...  إن المفكرين - العروي والحافظ - اعتبرا :  أن اليمين و اليسار ، العربيين  ، فقيران معرفيا ، بل و مشدودان  الى واقع  متخلف تاريخيا في جميع جوانبه 

إن (الحداثة التي راكمناها ثقافيا أشبه ما تكون بالقشور - في نظر الحافظ - فيما هي تغلف قعرا ثقافيا مسكونا بالتقليد ، أو مشدودا اليه بالف خيط ، و هي الرديف الموضوعي لتلك الحداثة الإقتصادية و السياسية الصورية التي أخذناها عن الغرب ، و خلنا أنها الحداثة فعلا ... ... ... )  ( راجع بلقزيز : من النهضة الى الحداثة ، ٢١٦).

ما العمل إذن ؟ 

أعتقد بأننا بحاجة الى (  عمل اجتماعي سياسي فكري ، و ثقافي   )  ذي طابع مدني و موحد  ، عمل يقوم على أسس فكرية جامعة متفق عليها ، عمل محكوم بخطط متفق على صياغتها . عمل  ، و أسس  ، و خطط تتحسس نبض الواقع العربي  ، و تحيك ثوبها على مقاسه ، و بما يناسب تضاريسه  ، شكلا و مضمونا : 

على أحزابنا - بمختلف توجهاتها - القيام بمراجعات فكرية  ، تتلائم مع المعطيات التاريخية الموضوعية التي فرضتها السنوات الأخيرة ، عليها أن تجدد نفسها فكريا  ، و بشريا ، و هيكليا ، و ذلك ضمن خطة عمل مشتركة تشارك في وضعها قوانا السياسية  ، و  المدنية ،  و الإجتماعية كلها ، و لا بد - لتحقيق ذلك - من عقد مؤتمرات أو لقاءات ... الخ - تضم - الى جانب ممثلي الاحزاب ، و المؤسسات المدنية  ، و المفكرين - ممثلين عن الذين لا ممثل لهم : الشباب الذين عرونا جميعا بحركاتهم التلقائية ، و شعاراتهم الجامعة التي كانت تستبطن حاجاتنا الحقيقية : العدالة و الحرية و الكرامة . 

أولويات واقعيه :

و حتى لا نضيع في بحر الشعارات الرنانة ، و الخلافات الفكرية ، و الجدل الإيديولوجي العقيم ، علينا أن نحدد أولوياتنا  - على المستويين الوطني و القومي - و هي  الأولويات التي أصبحت مفروضة بحكم الواقع نفسه ، انها أولويات أملتها - قديما ، و أبرزتها حديثا - حركة التاريخ ضمن الجغرافية العربية ذات الخصائص البشرية و الثقافية و الإقتصادية المميزة لها   :

من منا يشكك اليوم بأهمية تجاوز البنى التقليدية ( العائلية ، القبلية ، الطائفية ... ) لنحافظ على الكيان الوطني الجامع بمعناه الحقيقي ؟ :

الدولة التي يمارس فيها كل المواطنين ، على اختلاف مرجعياتهم  و انتماءاتهم ، حقوقهم السياسية دون تمييز ، و على أساس مرجعية اجتماعية سياسية قانونية واحدة ، و دون النظر الى المصلحة الضيقة فقط ، بل الى المصلحة العليا مصلحة المجموع .

من منا يشكك اليوم بأهمية العمل العربي المشترك ، لمواجهة الأطماع الإستعمارية المتعددة الوجوه و الأساليب ؟.

من منا يشكك اليوم بأهمية استغلال ثرواتنا الوطنية بأيد وطنية ،و ضمن تصور و خطط وطنية ؟

من منا يشكك بأهمية التوزيع العادل للثروة ؟ :

من منا لا يشعر بأهمية ضمان حقوق الفقراء قبل ضمان حقوق الأغنياء في تنمية ثرواتهم ؟.

إن كل إنظمتنا الإقتصادية تحتاج الى مراجعة  ، مراجعة يكون مدخلها تحرير اقتصادياتنا من الهيمنة الخارجية ، و يكون هدفها ضمان حسن استغلال ثرواتنا وطنيا و قوميا ، ثم عدالة توزيعها داخليا .  

من منا يشكك اليوم بأهمية القراءة المنفتحة لنصوصنا الدينية ؟:

قراءة تركز على جوهر الأديان الأخلاقي ، و تعاليمها الإجتماعية الراقية السمحة .. فتكون هذه القراءة بذلك ، سندا لمشروع مشترك يروم التقدم  ، لا عائقا يحول دوننا و دون التطور  ، كما تفعل اليوم قراءات سطحية ، و مغرضة ،  يستخدم فيها الدين لخدمة جهات معينة و اقصاء ، أو انهاء ، جهات أخرى منافسة .

هذه بعض أهم الأولويات من وجهة نظرنا التي نظن أن الواقع يؤيدها بأدلة معمدة بالدم و الآلام ، و هي أولويات ، لا يجب أن يفهم منها التالي :

لا نروم - و لا نستطيع - الغاء القبائل و الطوائف  ، و لكننا نروم - و نأمل أن نستطيع - إلغاء التأثير السلبي ، و أحيانا المدمر - للقبيلة و الطائفة  ،  و ذلك بربط المواطن مباشرة بالدولة دون واسطة كيانات فرعية ،تلوي عنق الدولة ،و تفرغها من جوهرها الوطني الجامع.

كما أننا لا نرمي الى القطيعة مع ماضينا العربي الإسلامي ، لكننا نرمي الى التحرر من هيمنة الماضي على الحاضر ، و لتحقيق ذلك لا بد من قراءة الماضي في سياقه التاريخي .

و نحن أيضا لا ندعو الى قطيعة مع تراث الإنسانية الثري_ و لكننا ندعو الى فهم هذا التراث فهما تاريخيا سياقيا .

و أخيرا : يحق لقارئنا التساؤل : هل هي رؤية طوباوية خيالية هذه التي ندعوا الى تبنيها  ؟

قد تبدو هذه الرؤية - التي لا شك  أنها استبطنت نتائج قراءات أخرى ،  لا أتذكرها الآن - طوبى ، قد تبدو مغرقة في الخيال ، لكني أقول : 

قد تبدو طوباوية في الغرض منها ، في خطة عملها و أهدافها ، لكنها ليست كذلك في منطلقاتها ، فقد انطلقت من واقع موضوعي صرف : واقع أثبت حيوية عالية على المستوى الشعبي ، و تكلس و تحجر ، على المستوى الرسمي و الحزبي و المؤسساتي .  لذلك استشعرنا الأهمية  البالغة لاستغلال و مواكبة هذا الحراك ، كل الوقائع تثبت أن هناك حاجة ملحة  للتغيير ، و  أن هناك حراك من أجل التغيير ، حراك عفوي تحرر من الرؤى الضيقة للمثقفين و الحزبيين ، حراك كفر بالجميع ، و من قاموا بهذا الحراك لا بد أنهم الآن - و بعد التجارب و الخيبات - أكثر كفرا بكل البرامج و النظريات ، و أشد إيمانا بالجوامع العامة البسيطة ، و هذا الإيمان - الذي أراهن عليه - هو الذي يجب استغلاله ، و الا تجاوزنا التاريخ جميعا ، بل إنه قد فعل و تجاوزنا ، و علينا اللحاق به ، و الا ، داس علينا و مضى ...!   .

و بصراحة : أعتقد أن أحدا لم يعد يهتم ببقاء هذا الحزب أو ذاك ، أو بقدسية هذا البرنامج أو ذاك ، الجميع - الا المرتزقة الذين يدمرون الأوطان بسلاح مشبوه - الجميع يؤمنون بقدسية الروح البشرية ، و أهمية الحفاظ على حرية الفرد ، و احترام كرامته ، و ضمان حقوقه . و لتحقيق هذه المباديء لا أهمية لشكل  ، و لا مضمون لا يحترمها ، و سواء استوعبنا الدرس - كأنظمة و مؤسسات و مثقفين - أم لم نستوعبه ، فإن سنة الله الماضية :

لا بقاء لظالم  ، و لا خلود لمفسد  ، و لا دوام لعابث ، بأمن، و سلامة، و استقرار الأوطان و المواطنين .

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (٢)

صدق الله العظيم .

الهوامش :

(١)كان عبدالله العروي سباقا في هذا المجال ، فقد نقد ما أسماه ( الإيديولوجيا العربية ) قبل هزيمة حزيران حسب بلقزيز . 

(٢)سورة غافر ، الآيه ٨٢