لها بقية
أهلا بكم في منزل صديقنا "آسر"، ذلك المنزل البسيط في أثاثه والقديم في أساسه، منزل يشع حرارة علي الأجواء الباردة التي تغلفه في ليلة شتوية عاصفة من ليالي ديسمبر المهيب، ذلك الشهر العجيب وذلك الفصل الغريب الذي يستعد لبداية السباق بينما يستعد ديسمبر والعام بأكمله أن يودع السباق، نعم إنه الشتاء الذي ينسلخ من نهاية ديسمبر ونهاية العام، ذلك الانقلاب الذي تتبدل فيه الأحوال أهوالاً علي البعض، أحزاناً علي بعضهم الأخر..
نطرق باب منزل صديقنا "آسر" الذي يسكنه ويستأنس بوحدته ودفئه، نبصر "آسر" وقد هَمَّ بصنع قهوته الليلية التي يعتبرها بمثابة الصديق المخلص والجليس العاشق، فتح "آسر" صنبور المياه ينتزع منه قطرات لتروي قهوته، وضع حبيبات قهوته المطحونة كذلك، وشرع في مطاردة السكر الذي دوماً ما يخشي نفاده، تحسس "آسر" موضع السكر فلم يجده، فانزعج أيما انزعاج، وما هي إلا لحظات حتي اخترق صوت زجاج يكسر مسمعيه، فاضطرب لذلك الصوت اضطراباً شديداً، لم يكن اضطرابه لما حدث بل كان بسبب ضيقه وضجره لأنه أصبح مجبراً علي تذوق مرارة قهوته التي طالما ظن أنها الوحيدة التي لن تؤذيه ولن تذيقه مرارة قط، ولكن هذه حال الأشياء كلها، والأشياء لا تعرف بغير نقيضها، اليوم تُذيقك حلاوة وغداً تأتيك بالمرارة، فلا تنتظر دوام الحال فلا بد أنه المحال.
مرت دقائق من السكون والهدوء -غير المعتاد علي ليلة شتوية- ثم شرع "آسر" في لملمة شتات نفسه وأزال آثار الجريمة التي ارتكبها، وفي هذه اللحظات ترصد كاميراتنا -عالية الجودة- زنزانتين خاويتين تتخذان من وجه "آسر" موضع البصر، وتهبط الكاميرات إلي أسفل فتجد شفاهه تتمتم قائلة: "الحمد لله سُجن البصر ولم تُسجن البصيرة بعد".
نهض "آسر" وكانت قهوته علي وشك النهاية، فحملها وانصرف يتحسس طريقه نحو غرفته الدافئة وفراشه الناعم الدافئ دوماً، أتي فراشه ووضع قهوته -مسلوبة السكر- علي "كومودينو" بجوار فراشه، و مد يده إلي درج هذا "الكومودينو" فأخرج جواباً تلتصق بأعلاه صورة مدون بأعلاها عبارة بالإنجليزية تقول:
"May we meet again..!"
ومدون بأسفلها عبارة بالفصحي تقول:
"حتماً كان الدعاء لأجل لقاء أتوق إليه"
فتح "آسر" الجواب واضعاً يده علي موضع الكلمات -وبالمناسبة لم تكن بطريقة برايل- و ردد قائلا:
"إلي عزيزي "آسر" .. كيف حال قلبك؟ .. مليكة قلبك"
نعم، كانت تلك هي الكلمات المدونة، بدا كأنه يحفظها حتي أنه يحفظ موقعها من الورقة، ثم ضم الجواب إلي قلبه بعد أن قبّله، و أرخي رأسه للخلف قليلاً ثم سكت لفترة ولم ينتبه سوي أن دقت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل أذنيه، فانتبه إلي قهوته التي كادت أن تفقد دفئها بسبب برودة الجو الشديدة، و أخذ يرتشف القطرة تلو القطرة وهو يردد قائلا:
"مُراً، تملؤه المرارة يا عزيزتي، كأنما هي قطرات القهوة التي فعلت به هذا الإثم، وأصابته هذا الجرم، لا يكاد يفارقه الألم، ولا تكاد عواصف الشتاء أن ترفق به، ولا حرارة الصيف، حتي ربيعه بات خريفاً، شتاؤه جافاً كصيفه، ومع ذلك فتلك الكلمات هي التي تبقيه علي قيد الحياة، تبقيه في تعداد العقلاء، عزيزتي ربما قد فقدت عيناي فذهب بصري وفقدت قلبي لكن تلك الكلمات كانت بصيرتي وستظل بصيرتي، ذهب القلب قبل أن تذهب العين، عزيزتي إن العين قد ذهبت ولكن الذكري الأليمة لا تفارقني، كأن القدر استبدل العين بتلك الذكري الأليمة، لا تزال تلك الليلة حاضرة في ذهني، لاتزال يديك التي كانت تغلفني حاضنة إياي لا تفارقني، لا يزال داخلي وخارجي يشعر بتلك اللحظة السعيدة التي باتت مؤلمة، لايزال داخلي يتذكر لحظات الهدوء والسكينة بين أحضانك داخل سيارتنا التي أضحت حطاماً، عزيزتي إنني لليوم الثالث والتسعين بعد المائتين هنا منتظراً لقائي، لقائي الذي دوما ما كنت أسعي لغيره، إنني أتذكر لحظاتي حين كنت أحملك من الفراش -وأنتِ غارقة في النوم- إلي حيث الوضوء لصلاة الفجر، أتذكر تلك اللحظات التي كنت أختلسها لمراقبة يديك المرفوعة إلي السماء وشفتيك المتمتمة بالدعاء إلي الله، لا تزال عيناي المفقودتين تري عينيك التي تدمع قبيل صلاة الفجر، ربما يشتد شعوري بالوحدة في ذلك التوقيت كذلك، كنتِ من أستأنس به في مناجاة الله، كنت دوماً علي يقين بأني لم أبلغك بعد، كان الخوف ينتاب أضلعي خشية أن يحول الصراط بيننا، فطنت أن تلك الأيام والشهور والأعوام في الدنيا زائلة، وإني في الآخرة بدونك لا أطيق، دعوت الله دوماً ألا يحرمني هذا الرزق في الجنة بل في الفردوس الأعلي، أطيل في السجود لأسأل الله عنك، يرتاح داخلي لعلمي أني قريب من الله ويقيني أنك كذلك في الدار الأخرة، عزيزتي ... أنا في الدنيا كطفل يتيم لطيم لا يقوَ علي الدنيا ولا تطيق الدنيا أن ترده قوياً كما كان، أسأل الله ألا يطيل عليّ الدنيا وألا يحرمني في الأخرة من أعانني في الدنيا، عزيزتي.. حتما في الجنة لقاء، إني هنا ختمت علي قلبي لأجل اللقاء فاللهم لا تحرمنا لقاء ولا تُشقينا بجفاء"
وهنا كان "آسر" قد انتابته قشعريرة انتفض لها جسده وزرفت لها دموعه و دق لها قلبه و ردد قائلا:
"وما في ودائع الرحمن حتماً ينال بطاعته، وما عند الله خير وأبقي"
وما هي إلا لحظات من الهدوء حتي شق سكون الله صوت مؤذن الفجر ينادي "الصلاة خير من النوم" و "آسر" يردد "والله يستحي أن يرد عبده صفر اليدين"