ليلة شتوية من أروع ما يكون، ليلة رعدية تكاد تُسمع الأصم، برقية يكاد الكفيف أن يهب مفزَعاً من شدة ضوئها، رياح تتلاطم كأمواج البحر، وغيث كعبرة زلزلت قلب عبد تائب، وجمال كجمال الأندلس، وأشجار لامعة تعكس دموعاً تجمدت في عينيّ صديقنا آدم...
آدم شاب في العشرين من ريعان شبابه، منذ أيام ليست بالقليلة ولكنها لم تك بالكثيرة فقد صديقنا والديه في حادثة في ليلة كتلك الليلة، ربما كانت حالة الجو الذي ألم به سبباً في أن ينجلي ستار السكينة عن جراحه، أعد (آدم) قهوته وأغلق باب غرفته -لا أدري لماذا- ، ربما انغلاق الباب يزيد من راحته، لكنه جلس وأخرج من ظرفين من مكتبه، مدون علي ظهر كل منها كلمة "أحببتك"...
للوهلة الأولي -عزيزي القارئ المتفحص صاحب الحس اللغوي الفصيح- قد تشعر أن فعل الماضي لا يقودنا إلا إلي فراق وحزن، وقلوبنا بها من الحزن ما يكفيها ويزيد، ومن الفراق ما تقول له جهنم: "هل من مزيد؟!"، لكن ربما ليس الحزن صديقنا إلي الألم، ألم يكن صديقنا إلي النجاة من قبل، ألم يكن رفيقنا إلي الالتزام من قبل؟!، لكن دعنا من ذلك، دعنا ننتبه لصديقنا الذي أوشك أن يزيل ستار الظرف الأول...
كانت أولي مفاجآت الظرف الأول أنه بخط يديّ والدته موجها إلي والده وتقول:
" أحببته منذ أن أصابتني عينيه برمحٍ -لا أعلم صفة لهذا الرمح- لكنه ليس كرماح الدنيا -فهي قاتلة-، لكن رمح عينيه أحياني وأنار بصري واحتضن بصيرتي، أحببته دون أن أعرف منه شيئا سوي عينيه، احتفظت بعينيه بين جفنيّ كي لا تنساه شبكيتي، منذ كنت في الثامنة عشرة من عمري وأنا أبحث عن عينيه حتي أتتني رسالة في صندوق الوارد من أحد الغرباء -ولكنه لم يكن غريبا- تباً لسوء ظني بالغرباء علي أية حال، حدثني وأخبرني مسرعاً بإعجابه المكنون بقلبه لشخصي، كان مسرعا في حديثه كمن تورط في محادثة لا يرضاها، في الحقيقة كان حديثه جافاً -لأي فتاة قد تقرأه- لكنه كان أبياتا من أبيات علي -رضي الله عنه- إلي فاطمة الزهراء بالنسبة لي، تملكتني الحيرة وأصابني الذهول، ربما تجمدت لاعوام وقرون لكني والله أفقت مسرعة، ولم تكن قوتي بالتي تكفيني لأحصل علي إجابة لسؤاله، ربما أيضا لا أعلم ماذا ينبغي أن يُقال، ربما هذا الشيء البغيض الذي أسقطني في شباكه هو من سلبني حق الرد بكلماته البسيطة التي لا تدع مجالا للرد -عذرا ليس بغيضاً🙂- ؛ ففضلت أن أكون حكيمة كالأمهات وفضلت الصمت كعلامة من علامات القبول، وربما كتبت النهاية لتلك المحادثة ذات الطرف الواحد، ربما كذلك حاول مطاردتي في بعض الرسائل عبر مواقع التواصل الاجتماعي مجهولة المرسل ولكني كنت أتحفظ علي الرد، أحيانا كان الشك يحدثني عن أن ذلك قد يُصرفه عني، مرت الأيام وأنا أتشوق لرؤيته وكنت متابعة جيدة لاخباره، كنت كجاسوس يتواري بين النظرات طيلة سنوات حتي تفاجأت به يحدثني يطلب زيارة لأبي، حينها أهديت أبي هاتفي كي يستكمل حديثه كي لا يحملني الشوق ويُسقطني في ظلمة من ظلمات يونس، وإذا بالأمور تسير مسرعة؛ فيأتي ويستقبله أبي وأنا خلف الستار أراقب ميدان المعركة وكلاهما شاحذ سيفه موجها رمحه، أولهما يقف شامخا مدافعا عن وطن يحتضنه، وأرض تضمه، وعين تحرسه، وأم تكفله، والآخر غازيا وربما حين لا يوجد الغزو فهو لاجئ يستجدي وطنا يعزه وهو أغني الأغنياء وأعف الفقراء، يطلب صاحبة تعينه، يداً تدفعه، وأنا خلف الستار ذات قلبين كل منهما يعتصر علي الآخر، وبعد مفاوضات جمة اجتمع الطرفان علي هدنة، ظنها أبي انتصارا -فلا زال يظفر بي-، وظنها المسكين انتصارا هو الآخر فلقد منحه أبي فرصة لرؤيتي، وبين تلك المعركة التي تملكت عقلي، إذا بأبي يناديني ويحدثني عن أن هذا الفتي قد استغل ضعفه وظفر بجولة منه، ودعاني لأقتسم معه بعضا من الدقائق، وجدته كتمثال محنط علي ما يبدو، ومرت الدقائق وأنا أنتظره يفتح ثغره كي يتفوه بكلمة واحدة، وإذا بأبي يطرق الباب ويخبره قائلا: " هيا يا قاهر الغزاة، فلتنتصر إن استطعت" وضحك كلانا وتبسم أبي وانصرف مرة أخرى، فإذا به يخبرني عنه بشكل لا أتذكره فلم أستطع أن أهتم بتلك التفاصيل بينما هو أمامي، وإذا بي أقاطعه قائلة "بسم الله الرحمن الرحيم: الرجال قوامون علي النساء، فبما تكون قوامتهم"، فوجدته يبتسم قائلا: "أفلا تكونين صبورة كي تكملينها" ، ووجدته يردد "بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم"، وانتهي حديثنا، وإذا به يهم بالرحيل، فنظر إليه أبي وقال: "ما بال الغزاة من بعد خالد يُقهرون!" وانصرف بهدوء والبسمة علي ثغره، وإذ بي أهرول إلي وطني -خلف الستار- فيجذبني أبي قائلا:
"وما الإجابة؟"
فأخبرته قائلة " أما للإجابة من استخارة!"
رد قائلا: "بلي، وما عساها قد أُديت تلك الاستخارة؟!"
فطأطأت وجهي أتأمل عدد الخيوط التي صنعت منها السجادة التي تطأها قدماي وأخبرته "إذا يا أبتِ فلتستأجره"، فابتسم قائلا: "إني لست بتاجر" فأخبرته قائلة: "فلتستأمنه" فرد ناكرا وهو يقول: "ما باله لا يقوي علي الغزو، أ يقوي علي الأمانة؟!" فأسرعت قائلة: "يقوي يا أبي، يقوي.."
تلك لحظات ومقتطفات لازالت تلوح بذاكرتي عنك، يا من كنت كريم المعشر، أبا بعد أبي، صديقا رغم أنفي، يا من كانت عينيه سيلا يروي الوادي الذي أصابه الجفاف، يا من وقف بين يدي أبي فلم يقوَ أن يرده، يا من عاهدني أبي علي رعايته، يا من يتعثر الحديث حين يكون عنك ولك، يا من بالقلب لك بستانا وجنانا، يا من أحببت، والماضي في فعلي لا يعترف بحاضر ولا مستقبل وإنما بزيد حنينا لما كان به"
صديقنا آدم بالتأكيد لم تقوَ نفسه علي الانتظار لقراءة الظرف الآخر الذي كان موجها من أبيه لأمه والذي استرعي انتباهه كم كانت كلمات أبيه ضئيلة قليلة، ظن للوهلة الأولي أنه لم يكن يمتلك من الحب لأمه بمقدار ما كانت تمتلك هي ولكنها أصر علي القراءة، وأخذ يسرد علي نفسه وأذنه حديث أبيه....
يقول الزوج:
" عروسي الجميل، معذرة فالرجال لا تجيد استخدام العبارات الملونة، ولا الكلمات المتحركة الفياضة، ولكني لا أذكر سوي أمر واحد، بالتاكيد تعلمين مقدار الحب الذي يحتويه قلبي لك، ومقدار الألم الذي أصاب قلبي كي ينال رضا الله فيكي، ولكني لم أدرك مقدارك حقا إلا حينما أشهرت سيفي بوجه أبيك، محاولا أن أنتزعك غنيمة لغزوتي، كم يعلم الله مقدار ما عانيت حينها حتي كدت أفقد أملي، لقد شق عليّ الأمر حين رأيت قوة معصمه الذي يأبي أن يرتخي ليدعك، لازلت أشعر بقبضة يديه حين كان عقد القران، لازالت عينيه تلمع بين عيني، ربما من يمتلك وطنا يموت لأجله، لكني وجدته لا متخداً الموت درعا بل أرضا تحمله للدفاع عن حصنه وقلعته...
عزيزتي إن الأوطان تسقط، والسلاطين تهوي تحت التراب، ومن له من قلبك موطنا لا يموت، لا يسقط، لا يغفل عن حراسة قلعته وحصنه...
عزيزتي حين حدثني عنك لم يُطل الحديث، ولم يُكثر الكلمات، فقط ردد وهو يهمس في أذني قائلا:
" زهرتي فلا تذبل، ورزقي فلا يُقطع، وغزوتي فلا أُهزم، وهذا ظني بك"
ولا أجد أروع من ذلك ختاما لحديثي...
وهنا دوي الصمت الحجرة إلا دقات قلب الفتي الذي كان يحتضن كلا الظرفين باكيا....
وإلي لقاء......