ولد سعدٌ في عائلة كل ذريتها ذكورٌ مشاكسون، من أين أتت لهم هذا المشاكسة؟ من الأعمام أو الأخوال؟ أو الحارة التي نشأوا بها؟ لا أحد يجزم، لكن بالتأكيد لم تأتِ من أمهم الرقيقة المسالمة.

حظي سعدُ بأعجاب أمه سريعاً، فهو الوحيد الذي لا تتعب معه! لا يجادلها في طريقة اللبس أو نوع الأكل أو موعد النوم.

كأنما فصلت شخصيته على مزاج والدته.

يفتخر سعدُ بحصوله على لقب الطالب المثالي في المدرسة عدة مرات، بينما يفتخر إخوتُه بعدد المرات التي خرجوا من نافذة الفصل بدلا من الباب.

+ +

انحسر عالمُه في فترة المراهقة بين مُساعدةِ أمه في مهام البيت، الاجتهاد في المدرسة، حفظ القرآن في المسجد، بينما توزعت أنشطة إخوته بين ألعاب الفيديو بالبيت، النوم في المدرسة والشجارات في الشارع.

++

تخرج سعدُ من الثانوية بمعدل مرتفع ورغب أن يتخصص في التاريخ، مادته المفضلة، لكن فضلت أمه أن يدرس الهندسة، ليرفع رأسها بين النساء بلقب أم المهندس سعد، يكفيها أن يتخصص بقية إخوته رفع ضغطها وسكرها.

++
تصور والدته للهندسة، لا يعدو مشاهد في المسلسلات يضعُ أحدُهم قلمَ رصاص خلف أذنه ويُدعى بالمهندس.

اعتاد سعد أن يحكي لها كل يوم ما درسه في الجامعة، سواء كان تفاضلا أو قوانين نيوتن، أو علم المواد والصدأ، كانت تستمتع له بشغف وتدعوا الله أن يحفظه من كل سوء.

لما تنقطع صلة سعد بالتاريخ مع دخوله الجامعة، فقد التهم معظم كتب التاريخ في الجامعة! مع ذلك تخرج بتفوق من قسم الهندسة الميكانيكية، لما سئل عن ذلك فقال: بركات دعوات الأم.

+ +

قُبل في جامعته كمعيد، وحصل على قبول في الجامعة جامعة غلاسكو، أقامت له عائلته حفل توديع.

تضاربت مشاعر ولادته فهي من جهة فرحة لأن ابنها لن يكون مهندساً فحسب، بل سيكون لديه دكتوراه بالهندسة! وهي حزينة لأنها تخشى عليه الفتنة.

ضمته في آخر لحظة وهمست في أذنه احرص على ثلاث: صلاتك، دراستك، ابتعد عن الملعونات لا يسحرنك!

تجول في مطار الملك فهد، ثم جلس على كرسي، يراقب المسافرين، رجالاً ونساء وأطفال، زرافات ووحداناً، كلهم بلا استثناء مبتسمون، حدث نفسه: “هذه مشاعرهم ولم يصلوا بعد لوجهتهم، كيف لو وصلوا إليها؟

أخرج جواز سفره، وقلبه بين يديه، جواز سفر نظيف، أول جواز سفر، ليس به ختم واحد، هذه أول مرة يغادر السعودية، يقول متحدثاً نفسه:" المفارقة، لم يسبق لي السفر إلى الكويت أو البحرين، الآن بعد ساعات سوف أضع قدمي في مدينة غلاسكو "

قارن بين ملابسه وملابس غيره من المسافرين الدوليين، تساءل هل ذوق إخوته جيد أم لا، تبرع إخوته المتمرسون على السفر في اختيار ملابسه، اختاروا له الأقمصة، البناطيل، الأحذية، الجوارب بل حتى ملابسه الداخلية.

++

شده محل يعرض المكرونة وجبته المفضلة، لكن خشي ألا يمكنه الوقت، فتوجه إلى بوابة المغادرة الدولية، بعدما تجاوز قسم ختم الجواز، تأمل ختم المغادرة، تمتم، لكن يكون الختم الأخير بإذن الله.

بحث في المنطقة الحرة عن مطعم يقدم المكرونة، لم يجد.

تأمل ساعته: ما يزال أمامي الكثير من الوقت، والجوع كافر والمعدة لا تريد إلا المكرونة!

رجع إلى موظف الجوازات، الذي ختم له بختم المغادرة.

سعد: كرما ممكن أرجع إلى الصالة الداخلية، أرغب في تناول العشاء هناك، الخيارات هنا لا تناسبني

موظف الجوازات يضع يداً على حزامه واليد الأخرى يمسك بها عود أسنان، يرد بسخرية مع تصغير عينيه: ماذا تريد؟


سعد: لو سمحت أحتاج فقط ربع ساعة، أرجع للداخل، آكل صحن مكرونة، لأني جائع والخيارات هناك لا تناسبني.

فقط ربع ساعة وأرجع، أنا جائع ولا أظن أني قادر على..

يقاطعه الموظف: ما قصتك؟ هل تود توريطي؟ أو أنت حمار لا تفهم النظام!

صعق سعد، أول مرة يُقال له يا حمار! كيف يجرؤ أن يقوله له ذلك وهو في طريقة لنيل الدكتوراه في الهندسة!


يتدخل موظف آخر ويوجه كلامه نحو سعد: طال عمرك، لا يمكن بعد ختم جوازك بختم المغادرة أن ترجع للسعودية، إلا إذا ختمنا لك مرة ثانية بالدخول. فأنت الآن في منطقة دولية.

حمار وطال عمرك، لفظتنا وجهتا له في وقت واحد، كانت كافيتين لأن تكف معدته عن طلب المكرونة.

صمت قليلاً والحمرة تعلو وجهه، شكر الموظف الثاني ورمق الأول بنظرة عتب ورجع للمنطقة الحرة.


++

تلصص على الحوار الغريب بين الموظفين وسعد مسافر كهل، اقترب من سعد بعدما ابتعد من الموظفين وقال: هل تدري لم قال لك يا طال عمرك؟

صمت سعد قليلا وقال بتردد: لا.

الكهل: لقد ظنك من رجال مباحث المطار، افتعلت هذا الموقف لتتأكد من انضباطية العمل.

علق سعد بسخرية: أنا مباحث!
صمت الرجل قليلا ثم قال: الله يعز الحكومة، الله يعز أل سعود، لولا الله ثم هم، لوجدتنا مازلنا نتقاتل،

تصل سالما لوجهتك وابتعد عنه.

رمقته عيون سعد بذهول.

++
استقبل سعد عندما وصل غلاسكو مطر، تباشر به خيراً، سرعان ما وقع في حب المدينة، أعجبه مبانيها، حدائقها، طرقها، بل حتى رياحها القوية، تساءل في الأيام الأولى مثلما تساءل سعوديون قبله عندما يسافرون لأول مرة، هل يمكن أن تكون مدننا بهذا الجمال؟

لم تكن المدينة وحدها من خلبت لبه، بل أيضاً فتياتها، كلما استرعاه جمال فتاة، تذكر وصية أمه: ابتعد عن الملعونات لا يسحرنك".

قاوم إغراء جمال الفتيات ماعدا سالي، ذات الشعر الأسود والعينين الزرقاوين، تعمل سالي في إدارة القبول والتسجيل في جامعة غلاسكو وتردد عليها سعد عدة مرات.

تحلو في عينه كل مرة يراه، تذكر تعريف الأدباء للمليح بأنه الشخص الذي تراه أجمل كل مرة تراه فيه مجدداً.

لم يكن الاعجاب من طرف واحد، بل بادلته أيضا الاعجاب. إعجاب سالي لم يكن لوسامته، بل لدرجاته العالية في البكالوريوس، تعتقد سالي أن الطالب المتفوق دراسياً ذكي بالضرورة.

سرعان ما تحول الاعجاب المتبادل إلى تعارف ثم صداقة.

ـ++


خلال تجوالهما مع بعض توقفا في ظهيرة يوم السبت، عند محل يقدم الكعك والشاي، طالبا كوبي شاي من عند المحاسب ودفعا هناك.

ثم استلما طلبيهما.

قالت سالي أن تعرفها على سعد غير شيئا من تصورها النمطي على سكان البلدان الحارة، فقد تصورت أن تنعكس حرارة الطقس العالية في منطقة ما على سكانها، في طريقة تعبيرهم عن مشاعرهم، فيكونوا انفعاليين، لكن وجدت في سعد شيئاً آخر. وجدته رزيناً، مثقفاً، رقيقاً، تتحدث بهدوء.

استغل سعد ملاحظتها، للتطرق علاقة الشرق والغرب وأثر العوامل الجغرافية والمناخية في اللغة والسلوك، ثم عرج على الطيب صالح وإدوارد سعيد وأمين معلوف، وقارن بين كيفية تعاطي كل واحد منهم للعلاقة بين الشرق والغرب.

يفضل في مرة أن يبهرها بمعلوماته الغزيرة.

ظلت سالي تستمتع له بشعف لأكثر من نصف ساعة، لم تكن تعنيها دقة المعلومات التي يسردها أمامها،

يكفيها متعة الجلوس مع شاب ذكي قادم من الشرق الأوسط.

بعد الانتهاء من الحديث، نهضا للخروج وقد تركا كوبا الشاي على الطاولة، طلبت سالي منه أن يرجع الأكواب إلى حيث أخذاهما.

أرجعها سعد ذلك بكل طواعية.

++

لقاؤهما الثاني كان في مطعم فاخر، يحصل فيه ما يحصل سابقاً، يسترسل سعد في الانتقال من موضوع معرفي إلى آخر وهو تنظر له وليس تستمتع بشغف.

بعدما فرغا من الأكل ونهضا للمغادرة، سألها سعد وهي تلبس المعطف، هل أرجع الصحون أم أدعها؟

أجابت بتعجب ممزوج بسخرية لا.

بعدما خرج من المطعم، سارا معاً، أمسكت سالي بيد سعد وهما يسيرنا، وقالت: عزيزي سعد

إذا ذهبت إلى محل وأخذت بنفسك الطلب، فعليك أن ترجعه أو ترميه في القمامة، أما إذا قُدم لك الطلب، فتدعه مكانه إذا فرغت منه.

أجاب سعد: هذه أول مرة اسمع بهذا الأمر.

صمتت سالي قليلا، شدت قبضتها على كف سعد، ثم توقفت عند تقطع طرق.

استدارت نحو سعد، وضعت يديها على خديه وقالت: أنت شاب ذكي، سوف تبدأ هذا الأسبوع برنامج الماجستير في هندسة المواد، كيف يخفى عليك هذا؟

صمتت قليلاً، تأمل عينيها الجميلتين ثم قال: لأني شاب مطيع لأمي.

ثم مشى لسبيله وتركها وحيدة.