حدثني أبي قائلاً :

في عام 1399 ( 1979 نصرانية ) كانت جماعة التبليغ تجوب البلاد طولاً وعرضاً ؛ للدعوة والوعظ والإرشاد – بما لهذه الجماعة أو عليها من إيجابيات وسلبيات - .

استمرت هذه الانطلاقة الدعوية إلى أن جاءت حادثة الحرم ( جهيمان وأتباعه ) ، فكان أن قُننت الدعوة ، وصار لها تنظيم خاص ، منه أن الداعية كان لا بد له أن يحمل بطاقة ، عليها يكون ختم الشيخ عبدالعزيز بن باز شخصيا – رحمه الله تعالى -  .

يضيف والدي قائلاً : في هذا العام كان أن التقيت في مسجد الحي الذي كنا نسكنه بأحد دعاة هذه الجماعة القادمين من اليمن ، فروى لي قصة تحمل في طياتها نوع نُدرة وطرافة .

كان هذا الداعية شيخاً يمنياً يناهز السبعين من عمره ، وقد روى لي قصته في زاوية من المسجد ، وعصر يوم لا أنساه .

فقال هذا الشيخ اليمني :

عشت خمسين عاماً لم أر أبي خلالها ، إذ إنه قد هاجر من اليمن طلباً للرزق ، فنشأتُ آناء سفرته ، وكبرتُ في غيبته .

تنفّس بي العمر ، واستدارت بي الحياة ، وأمي تقوم على تربيتي وكفالتي ، في قرية هادئة من قرى اليمن السعيد ، مع يقين جازم قد تولد في نفسينا بأن والدي قد مات في رحلته الطويلة .

عند نهايات عقدي الخامس من عمري ، حصل أن نزل بقريتنا صارخ يصرخ باسمي باحثاً عني ، فما أن التقيته ، حتى أخبرني بأن أبي حي يُرزق في جيبوتي ( الساحل الغربي من البحر الأحمر )  ، وأنه يطلب حضوري واللقاء بي .

حزمت أمري فوراً ، ثم ركبت البحر متوجهاً نحو جيبوتي ، للقاءٍ طالما تمنيته ، وحلمت به يقظةً ومناماً .

 وفعلاً التقيت بأبي الشيخ المسن المريض ، ففعل بي ما يفعله الوالد بولده ، وفعلت معه ما يفعل الولد بالوالد .

سألني عن كل شيء في قريتي – بعد أن وصف لي طرقاتها وأبوابها - ثم سألني عن والدتي وصحتها .

وجدته عليلاً مسناً ، لا يملك من أمر الدنيا سوى غنيمات قلائل ، وابنتين ضعيفتين ، قد أوصاني بهما خيراً ، فقال : الله الله بأخواتك الضعيفات  يا بني !

مات أبي في جيبوتي ، وبقيت من بعده مدة بها ، زوّجت خلالها أخواتي ، وبعت تلك الغنمات ، ثم عدت أدراجي إلى اليمن .

لم ألبث مدة حتى استصرخني صارخ الأمس يقول : إن أباك في " عدن " يطلب لقاءك !!

هذه المرة أجبت الصارخ بحزم قائلاً له :  أكل يوم لي أب !! إنما هو أب واحد لي قد دفنته في جيبوتي ، ولن أذهب لأي أب جديد بعد اليوم  !!

لم تمض مدة طويلة بعد هذا الصارخ إلا والأب الجديد يدخل قريتنا ، ويطرق بابنا ، ويدلف منزلنا !

جاءت أمي ، فقالت : هذا والله هو والدك !

اجتمع أهل القرية ، فعرفوه ، ورحبوا به وبعودته !

كان الجميع مسروراً ، متيقناً من كل شيء أمامه ، إلاي !!

بعد أن ذهبت الجموع ، وهدأت الأفراح ، تسللت إلى أبي ( الجديد ) فقلت له : يا أبت ! لقد كان لي أمر هو للعجب أقرب ؛ إذ إن رجلاً قد استدعاني إلى جيبوتي ، فادعى أنه أبي ، ثم وصف لي قريتنا كما لو كان يراها من وراء البحر ، وبعدها سألني عن حال أمي مسمياً إياها باسمها ، ثم أوصاني ببنات له خيراً ، فما أدري – يا أبت -  أمن الجن كان هذا الرجل أم الإنس !

سألني أبي عن أوصافه وشكله ، فوصفته له وصفاً دقيقاً ، فقال : نعم ، عرفته ، فهاك قصته :

إني لما خرجت من اليمن قبل خمسين سنة قد يممت شطر الحجاز ، فالتقيت بهذا الرجل الذي قابلته ، وهو من قبيلة " حرب " الحجازية .

وكان من أمرنا أنّا كنا مثل الإخوة أو أشد ، فعملنا سوياً تحت حكم شريف مكة ، ولما أن انتهى حكم الأشراف عليها ، انتقلنا معاً إلى الصومال ، فعملنا في الجيش الفرنسي فيه ، ثم انتقلنا إلى جيبوتي ، فبقي هو بها ، وانتقلت أنا – بعد سنوات -  إلى إثيوبيا .

وكان من أمر هذا الرجل ، أنه كان مقطوعاً ( بلا إخوة ولا أخوات ) ، وكنت قد حدثته  في أسفارنا عن كل حياتي ، حتى اسم أمك كان يعلمه ، واسم أمي .

والذي يظهر لي يا بني ، هو أنّ هذا الرجل قد ظنّ بأني قد مت في أسفاري لانقطاع أخباري عنه ، وأنه لما خاف على بنياته في الغربة ، ورأى أجله قد حضر ، وليس له من عصبة قريبة ،  لم يجد بداً من أن يستدنيك ، فيوكلك بهن خيراً قبل موته في دار غربته ، فقد كان غريقاً يتعلق بقشة ، وهو – يا بني - خير قد ساقه الله إليك ، فلا تندم .

قلت : كم في هذه الدنيا من أعاجيب !

آيدن .