عندما وَمَضَت بُروقُ المنيةِ فوقَ رأسِ صاحبِ جريدةِ المُقطّم ( فارس نمر باشا ) وأحسّ من لمعتها باقتراب أجله وانخرام عمره – ما كان منه إلاّ أن قد جمعَ كبارَ محرري جريدته ؛ ليُديرَ من خلالهم آخر مؤامرات الصحافة الصفراء وهو على فراش الموت الأسود !

كان هذا الاجتماع المخزي قد حصل قبل وفاة هذا الصحفي الشهير بيومين اثنين فقط ؛ وفيه قد طلب من هؤلاء أن يُعدوا كلمات الرثاء والتأبين التي ستُكتب عنه بعد وفاته ؛ ليطلع عليها هو بنفسه !

وأمّا عن سبب هذا الطلبِ الغريب ، والخارج عن الذوق الأدبي ، والعُرف المهني ؛ فلأنّ صحيفته ” المُقطم ” كانت عضُداً للاحتلال البريطاني في مصر ، ومروجةً لبضاعته ، وبسطاراً لمشيته ؛ فأراد ” فارس نمر ” أن يستبق التاريخ ( وهيهات له ) !

وبالفعل ؛ رأى فارس نمر باشا العدد الخاص بنعيه ، والثناء الحار عليه في هذا العدد ( الغيبي ) من قبَل موظفيه ومحرريه ( فقط لا غير ) !

ومع هذا العمل المشين والطفولي من ” أحفورةٍ ” بلغت من العمر ثلاثاً وتسعين سنة – إلاّ أنّ التاريخ قد قال عنه شيئاً آخرَ مُختلِفاً تماماً لما كان قد سوّده أزلامه عنه في نعيه المزور ورثائه المحبوك !!

نعم ؛ لم يَغْفَل التاريخُ – بعد كل هذا الدجل السخيف – من أن يسجل كلمته الصادقة في حقِ سيَر أعلام ” العمـلاء ” الذين كان منهم صاحبنا فارس نمر ؛ إذْ إنّه قد تولى بعد وفاته إيضاح الحقيقة الكاملة لهذا الشخص اللعين ، فقدّمَ للأجيال قصة عمالته للأعداء ، وسوء صنيعه من صناعتِه للغرب ، وتنفيذه لأهدافهم وأجنداتهم !

تذكرتُ هذه القصّة المؤلمة التي أوردها الأديب المصري الكبير " محمد رجب البيومي " لتقفز أمام عينيّ مباشرةً صورة صحفيين شهيرين قد كان لكتاباتهما وانطباعاتهما في السنوات الأخيرة الكثير من النقد والمؤاخذة في الوسط المحلي والإسلامي !

إذْ عادت بيَ الذاكرة لعصر ذلك اليوم الحزين الذي سقطت فيه بغداد ، وصور التلفزة تنقل مباشرةً جنودَ المارينز الأمريكان وهم يقتحمون ساحة " الفردوس " وسط عاصمة " الرشيد " !

وتذكرت معها تلكم المهاتفة " الشهيرة " التي أجرتها قناة " العربيّة " مع الصحفي المعروف " جمال خاشقجي " ! وما دار فيها من سؤال مذيعة هذه القناة لخاشقجي عن مشاعره تجاه ما يراه على الشاشة الآن ؟!

فكان من جوابه أنّه يشعر بالغبطة والسرور لهذه المشاهد الرائعة ، ويطلب حين استنكرت المذيعة منهُ ذلك : ألاّ يُفسدَ صفو فرحته أحد !

استدارت بي ذاكرتي إلى اسمٍ لا يقل بشاعةً ولا شناعةً في الرأي والفكر عن جمال خاشقجي ؛ وأعني بذلك الصحفي المعروف " عبدالرحمن الراشد " !

هذا الصحفي كانت ولا زالت جُلّ مقالاته مسوغةً للاحتلال الأمريكي في العراق ، ومعتذرةً له – حتى وإن خالفه إعلام الاحتلال نفسه ( سجن أبو غريب مثالاً ) !

وهو نفسه الإعلامي الذي رأس قناةً إخباريّة كانت ولا زالت تقف في الصف " العبـري " ضد الجهة المقابلة له " الفلسطينيّ " ! ولم تتورع هذه القناة ( العربية) يوماً عن وصف شهداء فلسطين بـ " قتلى غزّة " بينما لا تنفك تصف ضحايا الحروب من منسوبيها بـ " الشهادة " !

وكذلك فإنها لم تستحِ من أمتها التي تزعم الانتساب لها – بعدم إسباغها صفة " العداون " على ما جرى وحدث في غزّة ؛ فاكتفت من ذلك بتسميّته : " الهجوم على غزّة " ، فيما كانت ولا زالت تصف ضرب برجي التجارة في نيو يورك بـ " اعتداءات سبتمبر " !

هذان الشخصان هما أول من تبادر إلى ذهني حينما قرأتُ قصة " فارس نمر باشا " سالفة الذكر !

ولذا ؛ فإني أتوجه إليهما في الحديث ، وأعظهما بالحرف والتاريخ : أن يتقيا لعنة التدوين ؛ فإنها لا ترحم !

إذْ إنّ التاريخ الذي قد قال كلمته في حق فارس نمر .. لن يُخيفه - أبداً – ولن يُعيقه شيءٌ من أن يقول كلمته في حق شخصين لم يكن لهما من سُلطان ، ولم ينتشر لهما بين الناس من قبول ؛ فالتاريخ جريء على الأموات !

فهل – يا تُرى - سينتبه الراشد وخاشقجي إلى قِصَرِ عُمر الدُنيا وطولِ عُمر التاريخ ؟!!

أتمنى لهما ذلك حقيقةً !

آيدن .