بغداد !!

من أين آتيك يا عبقة المآثر ؟!! ففي العِلم " أحمد " ، وفي المجد " منصور " ، وفي الشِعر " تمّام " ، وأنّى أتيتُ باباً من أبوابك حيّاني مِنْهُ سيّدُ !!

بغداد .. كنتُ جالساً ظُهرَ اليوم أُقلبُ فِكري كيف أشاء ، ثم انتبهني شيطانُ العواطف قائلاً : أما آنَ لِما ماتَ من وجدانكَ أن يُبعثَ يا أشيَبَ المفارِق ؟!! 

فانتهرتني صبوةُ الصِبا ، واستفزتني أحايينُ ما مضى ، وصِحتُ : ألا هبي بصحنك فاصبحينا !!

وبحثتُ في بُنيات الطريق من قلبي عن شجنٍ قديم ؛ أُجَدِدُ فيه دماءَ القلب ، وأطوالَ الوجه ، وأُرضي به وَخَزات الصِبا المُجتمعه .. ودونما تَقَصُدٍ أو ترابط وجدتني أقف عند قصيدة " ابن زريق البغدادي " الموسومة بـ " قمر في بغداد " !!

وهي قصيدة قرأتها في بواكير الانتعاش الشبابي ، وفورة خفقات الوجدان ، وتحسس المشاعر .

وهذه القصيدة أحسب أنها أجمل ما قيل في " غزل الزوجات " !! فجُل - إن لم أقل كل - غزل الشعراء يكون في محبوبةٍ بعيدةٍ يلقاها على وَجَل ، وعلى حين غفلةٍ من أهلها .. لكنَّ شاعرنا أتحفنا بمُخالفة السائد ، ومُعاكسة المُتوارَث ؛ فشبّب بامرأته !!

وأتمنى على جميع زوجات الأدباء والشعراء عذر أزواجهن في تقللهم من التغزل فيهن : فأزهد الناس في الشيء أهله ، هذا أولاً .. !! وثانياً : أن الاعتبار الاجتماعي لا يستمرئ وصف الحلائل ، بينما لا يُمانع في وصف الخلائل !! ولعله معذورٌ بعض الشيء – أعني الاعتبار الاجتماعي - فلا غيبة لمجهول كما يُقال ، ولا تشبيب بنكرة ، وأما المُعرّف بـ ( زوجة ) فإنه معروف - معُرّف !!

ولعلَّ ابن زريق ولولا كآبة الظرف ، ومحبة الزوجة ، وغيّبية القادم ، أقول لولا ذلك كله لما جاشَ خاطره بـ ( قمر في بغداد ) !!

و( قمر في بغداد ) قصةٌ وقصيدةٌ وأسىً اجتمعت في أبياتٍ سارت بها الركبانُ قديماً ، والطائراتُ والسياراتُ حديثاً .

فابن زريق صاحبُ زوجةٍ جميلة ، وحبيبة إلى قلبه في نفس الوقت ، ومعها كذلك له حظٌ عاثر ، وسبيلُ رزقٍ موصودٌ بابه أيُّما تجربة – هكذا ظن من نفسه - !!

ويبدو ومن سياق القصيدة أنه قد اختار من شعَثِ قولِ من سَبَقَهُ هذا البيت ليكونَ قائداً له ودليلا :

دعيني للغنى أسعى فإني /// رأيت الناس شرهم الفقير .

فقرر إذ ذاكَ السفر للأندلس - خليج ذلك الزمن - !! علّه يعود برزق وفير يُبلغه ما اصطُلح على تعريفه حاضراً بـ " الحياة الكريمة " ، وفي هذا الخِضَمِ الهائلِ من المشاعر المُتداخلةِ جاءت " قمرٌ في بغداد " ، تنبئ عن لوعةِ الفراق ، وأقْسَامِ القَدَر ، وأشْتاتِ الهم ، وتَجَرُعِ النكد ، وتَحَسُسِ الغيّب وتَوجِسِه. يقولُ الشاعرُ بدايةً :

لا تعذليه فإن العذل يولعه /// قد قلتِ حقاً ولكن ليس يسمعه

جاوزتِ في لومه حداً أضر به /// من حيث قدرتِ أن اللوم ينفعه

فاستعملي الرفق في تأنيبه بدلاً /// من عذله فهو مضنى القلب موجعه .

ثم يستمر الشاعر في وصف هذا الشد والجذب ، بين استحباب المبيت عند الحبيبةِ الغالية، وبين الأمل بغنىً لا يطغي، هرباً من فقرٍ منسي، لا يرفق بمثل رهافة حِس ( ابن زريق ) ولا ودَاعَتِه !!

ثم وبعد هذا الشد والجذب يوصِلُنا ومن خلالِ قصيدته لقراره الأخير في أمر السفر فيقول :

أستودع الله في بغداد لي قمراً /// بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه .

وعند وصول أخيكم لهذا البيت تقاطرت فوق قلبه قطرات خمر الشعر دفعةً واحدة ، فصار (أخوكم ) ثملَ مشاعر ، يهذي تارةً بــ :

وإني لتعروني لذكراكِ هزةٌ ///كما انتفض العصفور بلله القطرُ

وتارةً بــ :

وليس الذي يجري من العين ماؤها /// ولكنها روح تذوب وتقطرُ

وثالثةً بـ :

إذا جئتَ فامنح طرف عينيك غيرنا /// لكي يحسبوا أن الهوى حيث تنظرُ

و رابعةً بــ :

كم قد ذكرتكِ لو أُجزى بذِكرِكُمُ /// يا أشبهَ الناسِ كلِّ الناسِ بالقمرِ .

وهاجَ قلبُ أخيكم وماج ، وفاحَ عبيرُ الروحِ عنده ، وأصبح قلبي أينما توجهه لا يأتي إلا بشجن !!

فعجَّت بقلبي دماءُ الشباب /// وضجت بصدري رياحٌ أُخر

آهٍ لكذا مشاعر..!! وداعٌ .. لزوجةٍ وفيةٍ !! وأين ؟ في بغداد !!

ثم يمضي شاعرنا واصفاً وداع قمره البغدادي ، مبتغياً العذر من نفسه لنفسه ؛ فالفقر كافر برهافة الحس ، ولا يتوارى إلا بكسبٍ يقتله ، فكان ما كان من ابن زريق من هَجْرِهِ الخِلّ الحبيب، واستعاضَته عنه بوجوهٍ مُنكَرَةٍ لا يعرفُ منها إلا رُسُومَ الإنسان !!

ولكنَّ المؤسفَ المحزنَ ، أنَّ ما كان يحذره لم يوقه !! يقول عن هذا الحذر المُخترَق :

قد كنت من ريب دهري جازعاً فرِقاً /// فلم أوقَ الذي قد كنت أجزعه

وليت الأمر قد توقف من ريبه فراق السفر ، لا.. بل كان يخشى أكبر من هذا أن يحلَّ بينهما فقال :

وإن تغل أحداً منا منيّته /// فما الذي بقضاء الله يصنعه

والمؤلم أن حتى هذه لم يسلم منها ، فقد اغتالت المنايا أحدَهُما قبلَ أن تكتحل ناظراهُ بالآخر ، وذاك هو ( ابن زريق ) الذي ماتَ في غُربته قبل أن يلقى زَوجَه !!

- فما الذي بقضاء الله يصنعه ؟!! -لا شئ سوى التسليم . عدتُ إلى نفسي بعد هذه الرحلةِ النشائجية ، وقلت : يا ابن زريق ، إن كنت قد افتقدتَ قمراً لك في بغداد ، فإنّا قد فقدنا سماءَ بغدادَ نفسها !! وإذا انفطرت السماءُ فإنَّ الكواكبَ ستنتثر لا محالة !!

 أحمد .