السأم ، الغثيان ، الغريب ، عناوين لروايات مشهورة تتحدث عن مأساة الانسان المعاصر ، لم اكن يوما أتخيل الحالة النفسية الاجتماعية لأبطال هذه الروايات، كيف يمكن للإنسان أن يصل الى مرحلة فقدان الرغبة في التواصل مع الآخرين ، بل الى فقدان الرغبة في الحياة ذاتها أحيانا ؟ . كيف يصبح كل شيء حواليه يبدو تافها بلا قيمة ؟  : الناس ، الأفكار المتداولة،  الحياة اليومية بكل تفاصيلها ، كل شيء ،  أي شيء ، يفقد قيمته،  لا شيء و لا أحد إلا ما ندر ، يثير اهتمامه .. كيف يصل الإنسان الى هذه الحالة فيشعر بسأم لا ينتهي ، او يشعر بالقرف و الغثيان من كل شيء ، أو بشعر بالغربة و الاغتراب فينزوي انزواء حقيقيا ،او يعيش بين الناس و لكنه لا يجد مكانه بينهم ؟ .


الإجابة الدارجة على هذه الأسئلة تختلف من مدرسة فكرية الى أخرى ، و لكنها جميعها - كما اظن -  تلتقي في نقد الحياة الرأسمالية المعاصرة  كسبب لحالات الاغتراب و السأم و الغثيان ، و لكن ليس هذا هو همي الآن ..  إنما أفكر في الفرق بين فهمي لشخصية هذا الانسان المسكين قبل سنين ،  و فهمي له الآن ، لم أكن قبلا أستطيع تَمَثُّل نفسية هذا الانسان ، لكن التجارب المريرة في الحياة جعلتني أعيش جزءا لا بأس فيه من معاناة هذه الشخصيات ، فعلى الرغم من اختلاف الظروف بين عالم عربي مسلم ،و عالم غربي تختلف قيمة الدين فيه من بلد لآخر لكنها لا تصل أبدا الى قيمة الدين و تأثيره في عالمنا العربي ، و على الرغم من الاختلاف بين تجربتي الشخصية و تجربة أبطال هذه الروايات و غيرها ، إلا أنني وصلت أحيانا كثيرة الى مرحلة اليأس من إمكانية التغيير ، و الاخطر أنني وصلت في أحيان كثيرة ( مثل هذا اليوم ) الى عبثية الكلام و النقاش ، فالأيام تزيدني قناعة أن الأنسان لا يمكن ان تغيره كلمات ، بل إن الموت اليومي لا يغيره ، و لا تغيره معاناة البشر و لو كانوا امام عينيه ، لماذا  ،و كيف ، يصل الإنسان الى هذه القسوة ؟ الى هذا العناد ؟ . كيف سيحيى الإنسان في بيئة لا قيمة فيها للكلام ؟ لا قيمة فيها للشكوى ؟ لا اعتبار فيها لمآسي الآخرين و معاناتهم ؟ لا عبرة فيها من تواتر الموت و الخراب؟  . الى من يمكن إذن أن يرفع الإنسان شكواه؟ كيف يمكن للإنسان إذا أن يتجاوز معاناته ؟ كيف سنتغير إذا الى الأفضل ؟ ما جدوى العلم و الثقافة و الفكر ؟ ما جدوى الكلام ؟ . بل ، ما جدوى الحياة ذاتها ؟؟!

نحن العرب نعيش أوضاعا اجتمعت فيها خصيصتان خطيرتان : تشربنا الفكر النفعي المادي من روح العصر ، و ورثنا القيم و الافكار المتخلفة من تراثنا العتيق . و هذا زاد طيننا بلة ، فنحن امام مجتمع مشوه منافق : يسعى سعيا حثيثا الى اشباع رغباته المادية الحياتية ، و رغباته الجسدية ، و اهوائه الشخصية،  و يغطيها بغطاء ديني _ اجتماعي قذر .. و النتيجة نفاق في نفاق ، ادعاءات بالتدين و الترابط الاجتماعي و الحياة النظيفة المحافِظة و الأخلاق الشرقية الفاضلة ، تسقط عند أي اختبار حقيقي ، فاذا نحن امام واقع مادي يتم تغليفه بالدين و العادات،  و الدين منه براء ، و الاخلاق العربية الأصيلة ( الجاهلية حتى ) منه براء . فاذا ترابطنا كذبة كبرى لا معنى لها الا اذا خضعنا للرب الاعلى : الحاكم،  رئيس الحزب، زعيم العشيرة ، رب الأسرة .... لكن جرب ان تخالف أي رب من هؤلاء الارباب بالرأي ، خلافا حقيقيا جوهريا ، لتصبح منبوذا فورا ، لتُمارَس عليك كل الضغوط بكل الوسائل التي تخالف العقل و الحكمة و الدين ، و حتى المرؤة و الشهامة الجاهليتين . ستتفاجأ بانك لا تعرف احدا ، ستكتشف أن جوهر البشر يخالف مظهرهم ، أن سرهم يخالف علانيتهم ، ان ما رددوه لسنوات لا قيمة له ، أن حياتنا كذبة كبرى . 

و آه من الم الصدمة و الم الخذلان و الم الحرمان ، ستغضب ،و تحزن ، و تتألم حتى يعصر الألم قلبك ، ستحاول ان تسلك سبيل الاقناع و الرفق ، ستتعامل بالحب و الود ، ستحاول ان تصون الروابط و ان تحترم القيم ، ستفشل ، ستتفاجا بِعناد مخيف ، بَتَمَتْرُس و تَخَندُق مرعبين ، ستتساءل عن العقل و الحكمة اين اختفيا ؟! ستتساءل عن الرحمة و العاطفة كيف تبخَّرَتا ؟ ستحاول مخاطبة القلب ، مخاطبة الضمير ، التذكير بالمودة القديمة ... لا فائدة !!!  لا كلام مجدٍ ، لا عاطفة تتحرك ، لا أثر لأي رحمة !!! و انت تعاني،  لا لا ، و انت تزداد معاناتك ، فأنت اصلا موجوع ، انت اصلا مكلوم ، سيتراكم الألم و الوجع،  ستضيق بك الأرض بما رحُبَت ، ستكتشف بعد حين ان المصلحة و الأنانية و كلام الناس و قيم المجتمع اهم منك ، لا ، اهم من الله ذاته ، نعم ، لا تتفاجأ ايها القاريء ، فالدين و كلام الله سيدخل المعركة كشاهد على ما يشاء المجتمع فقط ، سيعطلون الله الرحيم و الودود و اللطيف ، و سيجعلون الله منتقما جبارا ، سيتذكرون فقط آيات العذاب ،سيستدعون آراء كل الفقهاء الشاذين ، و المفسرين الانتقائيين ، و علماء السلاطين ، الذين جعلوا السلطان ربا ، و الأب ربا ، و العائلة مقدسة،  و الفرد لا قيمة له ، و الإنسان لا قيمة له ، الا اذا دار في فلك السلطان و لحس .... السلطان،  و صلى للعائلة الكريمة ، أما الفرد المعترض ( فضلا عن المتمرد ) فهو عاق عاص زنديق منحَل ، وحده السلطان يجتمع له الدنيا و الآخرة ، وحده الرجل / الأب / الزعيم يفعل ما يحلو له ، أما بقية عباد الله فخدم و عبيد ... فاين الله في هذه المعادلة الظالمة ؟ إن المجتمع عند هؤلاء اهم من الله ، فالله في خدمة المجتمع المنافق ، المجتمع الابوي المتسلِّط ، المجتمع الذي تسوده قيم المنفعة المادية بغطاء مكتوب عليه اسم الله ،و الله منه براء .

ستتوه بعدها،  ستفقد الامل من الجميع،  فلا كلام نافع ،و لا قلب شفوق ، و لا رحمة مَرْجوَّة  ، ستعاني وحدك ،و تضيق عليك الدنيا وحدك ، ستحارب وحدك ، ستشك بجدوى الكلام و الفكر ، بل بجدوى العمل،  بجدوى الحياة،  ستصاب بالسأم / بالغثيان / بالقرف / بالغربة ... ستسيل دموعك على خدك بحرقة ، ستشعر بالاختناق ، بأن غدا لا قيمة له ... و هم ينتظرون سقوطك ، ينتظرون استسلامك ، ينتظرون عودتك الى الحظيرة ... فإياك ان تعود ... فلست حيوانا يا ابن آدم ، قف ثانية و قاتل ، هنا يبرز الفرق بين الشخصية المؤمنة و الشخصية الملحدة ، ستتذكر ان هناك اله ، يعرف كل شيء ، قادر على كل شيء ، رحيم،  ودود،  له الامر من قبل و من بعد ، له الحكم النهائي و له القول الفصل ، فتقف ثانية و ثالثة و عاشرة و تستأنف القتال ، تحافظ على شعرة معاوية ، على ثوابتك الأخلاقية ،على مبادئك ، و لكنك لا تستسلم ، فأنت انسان حر مستقل صاحب إرادة،  صاحب حق ، و تتذكر انك بمقاومتك فقط تظل إنسانا ، و هذا للمؤمن و للملحد ، قاوم حتى تظل انسانا ،و إلا صيَّروك عبدا ، و تذكر انك لست وحدك ، فهناك ملايين المستضعفين ، قد يكونون اليوم ساكتين سلبيين مستسلميين ، و لكنهم سينهضون فجاة ، تذكر ان مشكلتك و مأساتك الشخصية هي جزء من مأساة العالم المعاصر ،فالارتباط مباشر بين الشخصي و العام ، فساهم في النضال العام حتى تستأنس بإخوانك المناضلين... هكذا فقط تستطيع ان تعود الى توازنك النفسي .

انسى البشر ، انسى تخاذلهم ،انسى قسوتهم ، انسى نفاقهم ، و اكمل قتالك ... فألمك لن يحس به الا أنت ، قلبك المجروح سيؤلمك وحدك ، قضيتك لن يدافع عنها الا أنت،  المصالح يا ابن آدم ، المصالح و الأنانية تتحكم بالبشر ، خاطبهم كما يفهمون ، لا تنتظر منهم اقتناعا ، سيفتحون لك آذانهم اذا شعروا ان هناك مصلحة مشتركة ، لا اقول لك كن ماديا مثلهم،  ابدا ، و لكن البشر لا يتغيرون عادة الا من اجل المصلحة ، كيف ؟ . كيف نجمع بين رفضنا ل المادية و النفاق و الانانية ... الخ ، و بين مطالبتنا بالمصلحة ؟ .

إنني اتحدث منطلقا من تجاوز محاولات الاقناع و الاستعطاف لعقول اغلقها التكبر و العناد ، و لقلوب اغلقها حب الذات،  و لشخصيات لا يهمها الا مظهرها و مكانتها الاجتماعية ، ادعو الى تجاوز هذه المحاولات الاقناعية الاستعطافية الى محاولة ايجاد الحلول التي تنفع الجميع ، دع كل صاحب راي يتمسك برايه ، و لنتفق على ما ينفع الجميع ، دع الجميع يتنازل لنصل الى حلول تحقق حدا معقولا من مصالح الجميع

.. هذا هو الدين الحق ، هذه هي الحكمة،  هذا هو العدل و الرحمة .. لكن هذا قد ينجح على مستوى التجارب الشخصية ، اما التجارب العامة ، فهي تحتاج الى نضال جماعي على كل المستويات ، نضال سياسي اقتصادي اجتماعي فكري وطني،  بهذا النضال فقط يمكن تغيير معطيات الواقع الموضوعي  ... و هذا النضال العام يدعم النضال الشخصي لانه يغير الواقع الذي يسبب الألم و المشاكل ، كما ان النضال الشخصي يرفد النضال العام ، و انا اعتمد في هذه المقاربة على  أن : 

١. الانسان كيان ناقص .

٢. لا يمكن ان يكون هناك راي نهائي في المواضيع الانسانية التفصيلية .

٣. اذن كلنا بشر مقصرون ناقصون ، كلنا نملك جزءا من الحقيقية .

٤. لا اريد اقناع احد برايي بقدر اصراري على ان يحترم رأيي كما احترم رايه .

٥. لذلك من المصلحة ان نحترم بعضنا لنعيش حياة كريمة ، فمهما كانت التنازلات ستسبب من مشاكل فهي ليست بقدر المشاكل التي تسببها الجراح و المواجهات و الصراعات المفتوحة .

٦. لا بد اذن ان يتنازل الانسان لأخيه الانسان .

٧. يمكن ان يؤدي ذلك الى حلول بعض المشاكل الشخصية اذا صدقت النوايا ، ولكنه لا يكفي في الجانب العام.

٨. اذ لا بد من نضال وطني شعبي على كل المستويات ، يحقق مصالح مختلف القوى الوطنية .. و هي القوى الرافضة للهيمنة و التبعية .

٩. هكذا يمكننا ان نخفف من ضياعنا و مآسينا الشخصية بربطها بالعمل الوطني العام .

١٠. هذا يحتاج الى عمل منظم مكثف و مستمر يؤدي الى الضغط على المستويات العائلية و الاجتماعية و السياسية ، لاحداث التغيير المنشود

١١. هذا يحتاج الى صبر و صمود كبيرين ، هذه طريق مؤلمة جدا و طويلة ، و لكنها الطريق الوحيدة لمحاربة هذا المجتمع المنافق و المتخلف .


لقد اسال تخلفنا و انانيتنا دماء و دموعا كثيرة ، لقد فطر قلوبا حساسة،  و قتل الكثيرين معنويا و ماديا ، و اعتقد انه آن الأوان لانقلاب جذري على هذا الواقع المشوه و الحقير .


هناك ، خلف هذا الافق و بعد هذا النضال،  هناك فقط يمكن ان نتنسم عبير الحرية ،ان نذوق العدل ،ان نصبح بشرا ... بل ان صمودنا الشخصي و العام في وجه الظلم ، رغم كل المنا ، يمنحني شخصيا ،و يمنح كل المقاومين للظلم ، احتراما للذات ،و شعورا بالاستقلال ، و قوة في الحق ، بدلا من الذل و التبعية .


#خواطري_علاء_هلال