ع

مدمن على القراءة مهتم بالتاريخ و الفكر عاشق للروايه و السير مشغول بسؤال النهضة محب لتراثنا و مؤمن بضرورة الانفتاح على الافق الانساني الارحب

مدة القراءة: 8 دقائق

اغتراب الانسان العربي

السأم ، الغثيان ، الغريب ، عناوين لروايات مشهورة تتحدث عن مأساة الانسان المعاصر ، لم اكن يوما أتخيل الحالة النفسية الاجتماعية لأبطال هذه الروايات، كيف يمكن للإنسان أن يصل الى مرحلة فقدان الرغبة في التواصل مع الآخرين ، بل الى فقدان الرغبة في الحياة ذاتها أحيانا ؟ . كيف يصبح كل شيء حواليه يبدو تافها بلا قيمة ؟  : الناس ، الأفكار المتداولة،  الحياة اليومية بكل تفاصيلها ، كل شيء ،  أي شيء ، يفقد قيمته،  لا شيء و لا أحد إلا ما ندر ، يثير اهتمامه .. كيف يصل الإنسان الى هذه الحالة فيشعر بسأم لا ينتهي ، او يشعر بالقرف و الغثيان من كل شيء ، أو بشعر بالغربة و الاغتراب فينزوي انزواء حقيقيا ،او يعيش بين الناس و لكنه لا يجد مكانه بينهم ؟ .


الإجابة الدارجة على هذه الأسئلة تختلف من مدرسة فكرية الى أخرى ، و لكنها جميعها - كما اظن -  تلتقي في نقد الحياة الرأسمالية المعاصرة  كسبب لحالات الاغتراب و السأم و الغثيان ، و لكن ليس هذا هو همي الآن ..  إنما أفكر في الفرق بين فهمي لشخصية هذا الانسان المسكين قبل سنين ،  و فهمي له الآن ، لم أكن قبلا أستطيع تَمَثُّل نفسية هذا الانسان ، لكن التجارب المريرة في الحياة جعلتني أعيش جزءا لا بأس فيه من معاناة هذه الشخصيات ، فعلى الرغم من اختلاف الظروف بين عالم عربي مسلم ،و عالم غربي تختلف قيمة الدين فيه من بلد لآخر لكنها لا تصل أبدا الى قيمة الدين و تأثيره في عالمنا العربي ، و على الرغم من الاختلاف بين تجربتي الشخصية و تجربة أبطال هذه الروايات و غيرها ، إلا أنني وصلت أحيانا كثيرة الى مرحلة اليأس من إمكانية التغيير ، و الاخطر أنني وصلت في أحيان كثيرة ( مثل هذا اليوم ) الى عبثية الكلام و النقاش ، فالأيام تزيدني قناعة أن الأنسان لا يمكن ان تغيره كلمات ، بل إن الموت اليومي لا يغيره ، و لا تغيره معاناة البشر و لو كانوا امام عينيه ، لماذا  ،و كيف ، يصل الإنسان الى هذه القسوة ؟ الى هذا العناد ؟ . كيف سيحيى الإنسان في بيئة لا قيمة فيها للكلام ؟ لا قيمة فيها للشكوى ؟ لا اعتبار فيها لمآسي الآخرين و معاناتهم ؟ لا عبرة فيها من تواتر الموت و الخراب؟  . الى من يمكن إذن أن يرفع الإنسان شكواه؟ كيف يمكن للإنسان إذا أن يتجاوز معاناته ؟ كيف سنتغير إذا الى الأفضل ؟ ما جدوى العلم و الثقافة و الفكر ؟ ما جدوى الكلام ؟ . بل ، ما جدوى الحياة ذاتها ؟؟!

نحن العرب نعيش أوضاعا اجتمعت فيها خصيصتان خطيرتان : تشربنا الفكر النفعي المادي من روح العصر ، و ورثنا القيم و الافكار المتخلفة من تراثنا العتيق . و هذا زاد طيننا بلة ، فنحن امام مجتمع مشوه منافق : يسعى سعيا حثيثا الى اشباع رغباته المادية الحياتية ، و رغباته الجسدية ، و اهوائه الشخصية،  و يغطيها بغطاء ديني _ اجتماعي قذر .. و النتيجة نفاق في نفاق ، ادعاءات بالتدين و الترابط الاجتماعي و الحياة النظيفة المحافِظة و الأخلاق الشرقية الفاضلة ، تسقط عند أي اختبار حقيقي ، فاذا نحن امام واقع مادي يتم تغليفه بالدين و العادات،  و الدين منه براء ، و الاخلاق العربية الأصيلة ( الجاهلية حتى ) منه براء . فاذا ترابطنا كذبة كبرى لا معنى لها الا اذا خضعنا للرب الاعلى : الحاكم،  رئيس الحزب، زعيم العشيرة ، رب الأسرة .... لكن جرب ان تخالف أي رب من هؤلاء الارباب بالرأي ، خلافا حقيقيا جوهريا ، لتصبح منبوذا فورا ، لتُمارَس عليك كل الضغوط بكل الوسائل التي تخالف العقل و الحكمة و الدين ، و حتى المرؤة و الشهامة الجاهليتين . ستتفاجأ بانك لا تعرف احدا ، ستكتشف أن جوهر البشر يخالف مظهرهم ، أن سرهم يخالف علانيتهم ، ان ما رددوه لسنوات لا قيمة له ، أن حياتنا كذبة كبرى . 

و آه من الم الصدمة و الم الخذلان و الم الحرمان ، ستغضب ،و تحزن ، و تتألم حتى يعصر الألم قلبك ، ستحاول ان تسلك سبيل الاقناع و الرفق ، ستتعامل بالحب و الود ، ستحاول ان تصون الروابط و ان تحترم القيم ، ستفشل ، ستتفاجا بِعناد مخيف ، بَتَمَتْرُس و تَخَندُق مرعبين ، ستتساءل عن العقل و الحكمة اين اختفيا ؟! ستتساءل عن الرحمة و العاطفة كيف تبخَّرَتا ؟ ستحاول مخاطبة القلب ، مخاطبة الضمير ، التذكير بالمودة القديمة ... لا فائدة !!!  لا كلام مجدٍ ، لا عاطفة تتحرك ، لا أثر لأي رحمة !!! و انت تعاني،  لا لا ، و انت تزداد معاناتك ، فأنت اصلا موجوع ، انت اصلا مكلوم ، سيتراكم الألم و الوجع،  ستضيق بك الأرض بما رحُبَت ، ستكتشف بعد حين ان المصلحة و الأنانية و كلام الناس و قيم المجتمع اهم منك ، لا ، اهم من الله ذاته ، نعم ، لا تتفاجأ ايها القاريء ، فالدين و كلام الله سيدخل المعركة كشاهد على ما يشاء المجتمع فقط ، سيعطلون الله الرحيم و الودود و اللطيف ، و سيجعلون الله منتقما جبارا ، سيتذكرون فقط آيات العذاب ،سيستدعون آراء كل الفقهاء الشاذين ، و المفسرين الانتقائيين ، و علماء السلاطين ، الذين جعلوا السلطان ربا ، و الأب ربا ، و العائلة مقدسة،  و الفرد لا قيمة له ، و الإنسان لا قيمة له ، الا اذا دار في فلك السلطان و لحس .... السلطان،  و صلى للعائلة الكريمة ، أما الفرد المعترض ( فضلا عن المتمرد ) فهو عاق عاص زنديق منحَل ، وحده السلطان يجتمع له الدنيا و الآخرة ، وحده الرجل / الأب / الزعيم يفعل ما يحلو له ، أما بقية عباد الله فخدم و عبيد ... فاين الله في هذه المعادلة الظالمة ؟ إن المجتمع عند هؤلاء اهم من الله ، فالله في خدمة المجتمع المنافق ، المجتمع الابوي المتسلِّط ، المجتمع الذي تسوده قيم المنفعة المادية بغطاء مكتوب عليه اسم الله ،و الله منه براء .

ستتوه بعدها،  ستفقد الامل من الجميع،  فلا كلام نافع ،و لا قلب شفوق ، و لا رحمة مَرْجوَّة  ، ستعاني وحدك ،و تضيق عليك الدنيا وحدك ، ستحارب وحدك ، ستشك بجدوى الكلام و الفكر ، بل بجدوى العمل،  بجدوى الحياة،  ستصاب بالسأم / بالغثيان / بالقرف / بالغربة ... ستسيل دموعك على خدك بحرقة ، ستشعر بالاختناق ، بأن غدا لا قيمة له ... و هم ينتظرون سقوطك ، ينتظرون استسلامك ، ينتظرون عودتك الى الحظيرة ... فإياك ان تعود ... فلست حيوانا يا ابن آدم ، قف ثانية و قاتل ، هنا يبرز الفرق بين الشخصية المؤمنة و الشخصية الملحدة ، ستتذكر ان هناك اله ، يعرف كل شيء ، قادر على كل شيء ، رحيم،  ودود،  له الامر من قبل و من بعد ، له الحكم النهائي و له القول الفصل ، فتقف ثانية و ثالثة و عاشرة و تستأنف القتال ، تحافظ على شعرة معاوية ، على ثوابتك الأخلاقية ،على مبادئك ، و لكنك لا تستسلم ، فأنت انسان حر مستقل صاحب إرادة،  صاحب حق ، و تتذكر انك بمقاومتك فقط تظل إنسانا ، و هذا للمؤمن و للملحد ، قاوم حتى تظل انسانا ،و إلا صيَّروك عبدا ، و تذكر انك لست وحدك ، فهناك ملايين المستضعفين ، قد يكونون اليوم ساكتين سلبيين مستسلميين ، و لكنهم سينهضون فجاة ، تذكر ان مشكلتك و مأساتك الشخصية هي جزء من مأساة العالم المعاصر ،فالارتباط مباشر بين الشخصي و العام ، فساهم في النضال العام حتى تستأنس بإخوانك المناضلين... هكذا فقط تستطيع ان تعود الى توازنك النفسي .

انسى البشر ، انسى تخاذلهم ،انسى قسوتهم ، انسى نفاقهم ، و اكمل قتالك ... فألمك لن يحس به الا أنت ، قلبك المجروح سيؤلمك وحدك ، قضيتك لن يدافع عنها الا أنت،  المصالح يا ابن آدم ، المصالح و الأنانية تتحكم بالبشر ، خاطبهم كما يفهمون ، لا تنتظر منهم اقتناعا ، سيفتحون لك آذانهم اذا شعروا ان هناك مصلحة مشتركة ، لا اقول لك كن ماديا مثلهم،  ابدا ، و لكن البشر لا يتغيرون عادة الا من اجل المصلحة ، كيف ؟ . كيف نجمع بين رفضنا ل المادية و النفاق و الانانية ... الخ ، و بين مطالبتنا بالمصلحة ؟ .

إنني اتحدث منطلقا من تجاوز محاولات الاقناع و الاستعطاف لعقول اغلقها التكبر و العناد ، و لقلوب اغلقها حب الذات،  و لشخصيات لا يهمها الا مظهرها و مكانتها الاجتماعية ، ادعو الى تجاوز هذه المحاولات الاقناعية الاستعطافية الى محاولة ايجاد الحلول التي تنفع الجميع ، دع كل صاحب راي يتمسك برايه ، و لنتفق على ما ينفع الجميع ، دع الجميع يتنازل لنصل الى حلول تحقق حدا معقولا من مصالح الجميع

.. هذا هو الدين الحق ، هذه هي الحكمة،  هذا هو العدل و الرحمة .. لكن هذا قد ينجح على مستوى التجارب الشخصية ، اما التجارب العامة ، فهي تحتاج الى نضال جماعي على كل المستويات ، نضال سياسي اقتصادي اجتماعي فكري وطني،  بهذا النضال فقط يمكن تغيير معطيات الواقع الموضوعي  ... و هذا النضال العام يدعم النضال الشخصي لانه يغير الواقع الذي يسبب الألم و المشاكل ، كما ان النضال الشخصي يرفد النضال العام ، و انا اعتمد في هذه المقاربة على  أن : 

١. الانسان كيان ناقص .

٢. لا يمكن ان يكون هناك راي نهائي في المواضيع الانسانية التفصيلية .

٣. اذن كلنا بشر مقصرون ناقصون ، كلنا نملك جزءا من الحقيقية .

٤. لا اريد اقناع احد برايي بقدر اصراري على ان يحترم رأيي كما احترم رايه .

٥. لذلك من المصلحة ان نحترم بعضنا لنعيش حياة كريمة ، فمهما كانت التنازلات ستسبب من مشاكل فهي ليست بقدر المشاكل التي تسببها الجراح و المواجهات و الصراعات المفتوحة .

٦. لا بد اذن ان يتنازل الانسان لأخيه الانسان .

٧. يمكن ان يؤدي ذلك الى حلول بعض المشاكل الشخصية اذا صدقت النوايا ، ولكنه لا يكفي في الجانب العام.

٨. اذ لا بد من نضال وطني شعبي على كل المستويات ، يحقق مصالح مختلف القوى الوطنية .. و هي القوى الرافضة للهيمنة و التبعية .

٩. هكذا يمكننا ان نخفف من ضياعنا و مآسينا الشخصية بربطها بالعمل الوطني العام .

١٠. هذا يحتاج الى عمل منظم مكثف و مستمر يؤدي الى الضغط على المستويات العائلية و الاجتماعية و السياسية ، لاحداث التغيير المنشود

١١. هذا يحتاج الى صبر و صمود كبيرين ، هذه طريق مؤلمة جدا و طويلة ، و لكنها الطريق الوحيدة لمحاربة هذا المجتمع المنافق و المتخلف .


لقد اسال تخلفنا و انانيتنا دماء و دموعا كثيرة ، لقد فطر قلوبا حساسة،  و قتل الكثيرين معنويا و ماديا ، و اعتقد انه آن الأوان لانقلاب جذري على هذا الواقع المشوه و الحقير .


هناك ، خلف هذا الافق و بعد هذا النضال،  هناك فقط يمكن ان نتنسم عبير الحرية ،ان نذوق العدل ،ان نصبح بشرا ... بل ان صمودنا الشخصي و العام في وجه الظلم ، رغم كل المنا ، يمنحني شخصيا ،و يمنح كل المقاومين للظلم ، احتراما للذات ،و شعورا بالاستقلال ، و قوة في الحق ، بدلا من الذل و التبعية .


#خواطري_علاء_هلال

ع

علاء حسام هلال

مدمن على القراءة مهتم بالتاريخ و الفكر عاشق للروايه و السير مشغول بسؤال النهضة محب لتراثنا و مؤمن بضرورة الانفتاح على الافق الانساني الارحب

أهلاً بكم في مدونتي! أنا كاتب شغوف أشارككم أفكاري وتجربتي في الحياة من خلال تدوينات أسبوعية. أستكشف فيها التوازن بين القيم والمغريات التي نواجهها يومياً، وكيف يمكننا أن نعيش حياة مليئة بالمعنى والعمق. انضموا إلي في هذه الرحلة الأدبية!

انضم الى اكتب

منصة تدوين عربية تعتد مبدأ البساطة في التصميم و التدوين

التعليقات