هناك صور تقول أكثر من الكلمات ، فكثيرا ما تعجز الكلمات و تخوننا التعبيرات فنلوذُ بالصمت ، ثم نسمع موسيقى تحكي ما بنا ، أو نرى صورة تعبر عن حالنا ... وقتها يجب أن نسكت نهائيا و نترك الكلام للفن انتظارا لكلام مُعَبِّر ، أو اسلوب مٌجَسِّد و مصوِّر لأحوالنا ..
لكن مهلاً ، هل المشكلة فقط في وسائل التعبير، أم أنها في شخص المُتَكَلِّم ، أم تراها في المستمعين ؟ .
هل هي في سوء التعبير ، أم في سوء الفهم ، أم في رفض الفهم ؟ .
ما أغرب الإنسان ! ؛ لا يوجد من يتلاعب بالكلمات ، و لا يوجد من يلوي أعناق النصوص إلا الإنسان ، فهو وحده الكائن العاقل المُتَكَلِّم ، اللغة ميزته ، و لعنته ، قد ترفعه و قد تضعه ... الكلمات ، اااه من وقع الكلمات ، و أثر الكلمات !! .
الكلمات كشافٌ للنفوس ، و صورة للعقول ، و لكنها أيضا ترسم للإنسان حدود الممكن في التعبير ، و ربما في التفكير .. علاقة معقدة ، جدلية، هي التي تربط الكلمات بالنفس و بالعقل ...
ليس من قليل وضع الله سبحانه رقابة دقيقة ، و دائمة ، على ألفاظنا :
" ما يلفظ من قولٍ إلا لديه رقيب عتيد " .
يا ويل من لا يخاف الله في كلامه ، يا ويل من يتكلم بلا تأنِّي و تثبُّت ...
الكلمات ، لم اتنبه الى خطورتها ألا مؤخرا ، رغم أني أصاحب الكلمات قراءة و كتابة منذ عقود ، تحدثت عن الفكر عن الأخلاق عن الظلم ... عن عشرات القضايا و الأشياء و الأشخاص ، لكن الكلمات ، اللغة ، هذه الوسيلة التي تحمل كل القضايا ، ظلت بالنسبة لي قضية لا أفكر فيها ، لأنها غير موجودة أصلا في ذهني كمشكلة .. لكنني بت مُدْرِكا للكلمات بحساسية فائقة ! . مدركٌ خطورتها سواء كنت متكلما مُرسِلاً ، أو مستمعا مُستقبِلاً للكلام ..
ترى هل جَرَّبتم شعور الإنسان عندما تطوف في مخيلته و عقله أفكارا و صوراً ضبابية، أو ناقصة ؟ هل شعرتم بالعجز و أنتم تحاولون التقاط هذه الأفكار و الصور و صياغتها في كلمات ؟ . أنا جربت ذلك مرات لا أذكر عددها ، و لسنوات ، كلما ظننت أنني قبضت على الفكرة، و أنني بت قادرا على التعبير عنها ، فإذا بي أكتب نصاً مراوغا ، يدور حول الفكرة و لكنه لا يراها، لا يستطيع وصفها و تصويرها ، يا الله ما أسوأ هذا الشعور ، أظن أنه يشبه شعور الطفل و هو يحاول الكلام و لا يستطيع ! .
هل جربتم أيضا أن تتحدثون كثيرا و بأساليب مختلفة بلا طائل؟ بلا ردة فعل تثبت أن كلامك مفهوم ، أو حتى مسموع ، هل حربتم شعور الإحباط الذي يصاحب هذه الحالة ؟ .
هل جربتم كتابة نصٍّ تظنه محكماً و جميلا لدرجة الاعتقاد بأنه مؤثر لا محالة ، ثم تفاجاتم بأنه مرَّ كأيِّ نص آخر ؟ .
الكلام مهم، لكنه ( مهما كان متقنا منطقيا و شكليا ) لا يكفي لتقتنع ،أو لتُقْنِع ، هناك متغيرات كثيرة تحكم أثر الكلام ، و تحول الكلام إلى فعل ، أسباب نفسية و اجتماعية و اقتصادية و دينية و غيرها .
لذلك ،
لم أعد أنتظر اقتناع أحد بكلامي ،لم أعد أسعى ألى تحول كلامي إلى فعل و حدث ، لم أعد أسعى لأن أراه متجسدا بأي شكل، كل ما أهتم به ، أن أدقق جيدا في كلماتي ، و أن استمع جيدا الى من يحدثني .. كل ما يهمني هو أن يحترم رأيي المخالفون ، و أن أحترم أنا أيضا رأيهم . .
الكلام ، اللغة ، ليست حروفا و كلمات ، إنها روح الشخص و المجتمع و عقلهما ، و ثقافتهما .... الخ مُعَبَّرٌ عنها بكلمات، و لكن هذه الروح و العقل و الثقافة ، تتأثر أيضا باللغة و الكلمات ،في علاقة جدلية لا تنتهي . تمر الكلمات في قنوات كثيرة قبل أن تخرج من أفواهنا، تمر عبر عقولنا و قلوبنا ، عبر أهلنا و مجتمعنا ، و عبر هذا التفاعل المعقَّد بين المتكلم و محيطه ، تخرج الكلمات ، و عندما يتم استقبالها تمر بذات الممرات و الطرق النفسية / الاجتماعية ، فنفهمها بعد صباغتها بصبغة نفسية / اجتماعية ، فنرفضها بناءً على ذلك ، أو نقبلها ، لا نرفض و لا نقبل ببراءة صافية مهما فعلنا ، غاية المنى أن ندقق أكثر ، و نفكر أكثر ، لنصل الى أقصى الموضوعية الممكنة لنا كبشر ....
إذن ، الكلمات فكر و مشاعر و اعتبارات اجتماعية و نفسية ، فالإنسان كلٌّ لا يتجزأ، ليس عقلا محضا ، و لا قلبا محضا ، ليس فردا محضا و لا كائنا اجتماعيا محضا ، لذا يقتضي الفهم، و الإفهام ، أن نأخذ بعين الاعتبار متغيرات كثيرة متشابكة و معقدة غاية التعقيد ، لا تنتظر إذا اقتنعت بفكرة، ثم عبَّرت عنها بمتانة اسلوبية و منطقية، لا تنتظر أن يستقبلها الآخرون بنفس حماسك ، بل على العكس، قد يستقبلوها برفض صارم ، و كذلك أنت و أنا كمستقبلين للكلام و الأفكار ، لا يُنْتَظَر منا أن نستقبل هذا الكلام و أفكاره بنفس حماس الكاتب، بل لا يجب أن يُنْتَظَر منا القبول أساسا ، يكفي من الطرفين، المُتَكَلِّم و المٌسْتَمِع ، أن يحترم كلٌّ منهما الآخر ، يكفي أن يتَفَهَّم كلٌّ منهما الآخر ( و التَّفَهُّم يختلف عن الفهم) ، و الأهم ، يكفي أن يحتضن كلٌّ منهما الآخر في خطئه و صوابه ، ما دام الخطأ غير متعمَّد ، بل لعلَّ احتضان المخطيء ( المخطيء في نظرنا طبعا ) أهم من احتضان المُصِيب ، فالناجح المُصِيب ( في نظر الغالبية) له ألف أب يحتضنه ،لكن من يتعثر يتخلى عنه معظم الناس .
نحن بحاجة الى خلطة " انسانية " للتعامل ، خلطة تتكون من العقل و القلب معاً ، علينا أن نحاول الفهم بالدقة و الموضوعية الممكنة ، ثم علينا مع ذلك أن يتسع صدرنا للمتكلم ، و أن نحتضنه إذا استوجب الأمر .
كان النبي صلى الله عليه وسلم، الرحيم ، ما أعظمه من انسان ، كان يوصي بأن تذبح البهيمة بطريقة مريحة لا تؤذيها قدر الإمكان . فما بالُنا نذبح بعضنا حقيقة في صراعات لا تخدم الا الاعداء ؟ ! و ما بالُنا نذبح بعضنا مجازيا ، بالكلام و القسوة ؟ .
في عالم الإنسان ، ازداد قناعة كل يوم ، تعقيدات الى أبعد الحدود ، متغيرات تكاد تكون لا نهائية ، فلنرحم بعضنا البعض ... أن تكسب إنسانا أهم ألف مرة من أن تقنعه ، متى سندرك أننا لسنا نسخا متطابقة ؟ متى ندرك أن الخلاف في الرأي لا يفسِد قضية الود ؟ متى نقضي على غرورنا و تكبرنا ؟ متى يتنازل الأخ لأخيه ؟ .
بالنسبة لي ، لا يهمني الرأي ، بقدر ما تهمني الطريقة للوصول الى الرأي ، و لا يهمني أن يقتنع الكل برأيي ، بقدر ما يهمني أن يحترموا رأيي ...
#خواطري_علاء_هلال