ومضة : قال أنس بن مالك رضي الله عنه : " ما نفضنا أيدينا من التراب من قبر الرسول صلى الله عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا " رواه ابن ماجه .
ــــــــــــــــــــــــــ
تحمل بعض الشخصيات " كاريزما " تتميز بالجذب والنشر ؛ فتكون هالتها جاذبةً للغير ، وتكون قيمها منشورةً عليهم ، ولا يُشترط من ذلك كله : الخيريّة أو الشر !
ولذا فإنّ الأتباع أو المُعجبين بهذه الشخصية غالبًا ما يهتز مستوى انصياعهم لتلك القيم التي حملتها أو نشرتها ( الشخصية ) بمجرد غيابها أو وفاتها ؛ ولعل شيئاً من هذا القبيل قد كان سببَ تخوف سيدنا أبي بكر الصديق منه : فبعد موت رسول الله صلى عليه وسلم ؛ هرَعَ من فوره – رضي الله عنه – يُثبتُّ أفئدةَ الناس بمقولته الشهيرة : " أيها الناس ، من كان منكم يعبدُ مُحمداً فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبد الله : فإن الله حيٌ لا يموت " !
ولعلّ – أيضاً - قصة جنوح بني إسرائيل لعبادة العجل قد كان بعض سببها : غياب شخصية الرمز ( موسى عليه السلام ) حين ذهب لميقات ربه .
وقد تميـزت هذه البلاد " المملكة العربية السعودية " بتعاضد مثير للإعجاب بين شقيها السياسي والشرعي ؛ إذ تعاضد المُلك مع ميراث النبوة في توزيعٍ رائع لأدوار الدين والدنيا بينهما – مما يُذكرني بما سنّه الله تعالى لبني إسرائيل من فصلِ النبوة عن المُلك ، وخدمة الأخير للأول !
وكذا كانت الدولة السعودية المُباركة منذ نشأتها الأولى عام 1157 هـ ؛ إذْ تآلف وتحالف السيف والمصحف ، والمسجد والقصر ، والشيخ والإمام - قد يحصل بعض الفتور ولكن الانفصال شبه معدوم - !
وقد خرّج لنا تاريخ هذه الدولة عدداً من الشخصيات ذات الجاذبية الباهرة ، والسحر الخاص ، والمغناطيس الدبيب : على اختلاف الجناحين لها ( السياسي والشرعي ) ومن أمثلة ذلك في الجناح السياسي : محمد بن سعود وابنه عبدالعزيز ، وفيصل بن تركي ، والملك عبدالعزيز ، والملك فيصل ، والملك فهد .
وفي الجانب الشرعي برزت أسماء لازال رنينُ اسمها يُثير شجناً دفيئاً في القلوب ، من أمثال : محمد بن عبدالوهاب ، وحفيده سليمان بن عبدالله ، ومحمد بن ابراهيم ، وعبدالعزيز بن باز ، ومحمد بن عثيمين .
ويُعتبر الإمام " ابن باز " رحمه الله تعالى من أبرز الشخصيات التي طار ذكرها في هذا العصر ، واحتلّت مكانة واسعة من قلوب الخلق على اختلاف مراكزهم وتنوع اهتماماتهم .
ولعلّ مردّ هذا الشيء يعود لأسباب عدة ، يكمن أبرزها في شخصية الشيخ التي تتمدد في القلوب بطريقة لا يُمكن تفسيرها إلا بكلمة : ربانية !
وبالإضافة إلى امتداد عمره المُبارك الذي تجاوز التسعين ؛ فإنّ فترة انتشار روحانية الشيخ جاءت متزامنة مع وسائل الاتصالات والمواصلات الحديثة التي سهّلت لقياه أو استماعه .
وأحسبُ أنّ الجميع الآن شبه متفقٍ بأنّ حالنا بعد وفاة الشيخ ليست كما هي في حياته ، بل إنّ بعض العلماء وطلبة العلم والدعاة ليسوا هم - وإن كانوا ( هُم ) !
فما هو يا تُرى سبب هذا الفتور عند البعض أو النكوص عند الآخر ؟!
أحسب أنّ إجابة هذا التساؤل تصل إلينا من قوله تعالى على لسان الصالحين من أوليائه : " واجعلنا للمتقين إماما " !
ومعنى " إماما " في هذه الآية أي : " قدوة حسنة " ! وكذا كانت شخصية الإمام ابن باز قدوةً في الإخلاص وهضم النفس وسمو المقصد – فتبعه على ذلك العوام والخواص !
وبناءً على هذه الشخصية " المنتشرة " التي تشبّع منها المجتمع برمته - فإن الكثير من طلبة العلم لم يكن يجرؤ على مجرد مخالفة مظاهر " الإخلاص " – مع أنه قلبي ! - فضلاً عن مُخالفة " التنسك " أو " الرأي الفقهي " ، مع الالتزام شبه التام بحلية الشيخ وسَمْتِه !
ولكن ، وما أن توفي الشيخ - رحمه الله تعالى – حتى لم يُطق الكثير في المتابعة له صبراً !
فرأينا فلاناً يفخر بطباعة كذا نُسخة من كتابه ! ورأينا فلاناً يُصور للمجلة أو الجريدة صوراً لا تليقُ برزانة طالب العلم أو هيئة المُخلص ( خلفه كُتب مستعارة وبيده اليمنى قلم ) !
نعم فقد مات " القدوة " في هضم النفس ، واحتقار العمل ، وتوريةِ الشخص ! ومعه قد توارت الكاريزما الخاصّة به ، والتي ساهم في نشرها ثبات هذا " الرمز " على مبادئه طيلة تسعين سنة !
ولذا ؛ فما أن غاب هذا الرمز حتى اندرست كثير من معالم الشخصية ( الجمعيّة ) : التي نشرها إخلاصه ، وبثتها روحه ، وفرضتها شخصيته ، وكانت حافلةً في المجتمع كله إبّان بقائه !
آيدن .