توفي بالأمس أحد كتّاب المنتديات المجاورة ، ممن لا أعرف عنه – عامله الله بلطفه – إلا أنه كان يكرهنا وهو حي ، وأنّا أحببناه بعدما مات !
ولستُ على هذا أقع ، ولا منه أستأنس !
ولكن جالَ في النفسِ بعد خبر موته شهوا التكذيب له ، على طبائع النفس التي عبّر عنها أبو الطيب المتنبي في قوله :
طوى الجزيرة حتى جاءني خبر = فزعت فيه بآمالي إلى الكذب !
ثم تركتُ هذا بعد أن أخذته ، وتمنيتُ منه أمنيةً أخرى تخصني وهي : أن أقرأ ما قيل فيّ وعني بعد موتي !
تُرى : من سيبكي علي ؟! وبمَ سأرثى ؟!
من سيفرح ؟! ومن سيشمت ؟!
من أطول من يتذكرني ؟! ومن سيقتصر ؟!
وهل سيكتفي الجمعُ برحماتٍ هي كـ ( صلاة الغائب ) لا روحَ تحفُها ، ولا جثمانَ يهزها ؟!
ولذا ، فإني بعد ذلك أستوعبُ تماماً ما فعلهُ خلف الأحمر ( الأديب العباسي ) ، حين طلب من أبي نواس ( الشاعر ) أن يرثيه وهو حي ! وقد فعلها أبو نواس ، ثم عرضها على خلف الأحمر الذي استجودها وأثنى عليها ! وكان مقدمة ما قاله أبو نواس في قصيدته المسماة ( رثاء حي ) :
لو كان حي وائلاً من التلف *** لوالت شغواء فيّ على شغف !
وعلى هذه القصة ؛ فإني لا أطلبُ مستحيلاً ولا جديداً في أن أقرأ ما قيل وما سيُقال عني بعد موتي !
وقد تتبع عدد من البحّاثة والأدباء حالات كثيرة لطلبي ، قرأ فيها الميت رثاء الحي !
ومن أطرفها وأجملها رثاءُ الأديبين السعوديين عبد الله بن خميس و عبد الرحمن بن معمر للأديب المصري الكبير أحمد الزيات بعد شائعة وفاته .
وقد كانت فرصةً جميلةً للزيّات أن يقرأ خبر موته ، ورثاء الراثين له ، وهو حينها حيٌ يُرزق !
وقد أرسل الزيّاتُ بعد ذلك رسالةً جليلةً جميلةً للجريدة السعودية التي نشرت خبر موته ورثيةَ الراثين له ، وهاكم ما قاله الزيّاتُ ( الجميل ) عن الخبر ( الحزين ) :
" أخويَ الأعزين عبد الله بن خميس وعبد الرحمن بن فيصل بن معمر. لأول مرة في تاريخ الإنسان يقوم ميت ليعذر من نعاه ويشكر من رثاه.
ولأول مرة في تاريخ الأدب يقوم كاتبان يجوز عليهما ما يجوز على الناس في هذا العصر من كفران بالجمال ونكران للجميل فينشران معنى الوفاء نثراً كأزهار الروض عطر الألفاظ نضير الجمل على قبر كاتب غريب لم يرياه في مكان ولم يعايشاه في وطن ولم يلابساه في صداقة، وكل ما بينهما وبينه صلة أدبية عامة يكفي في التعبير عنها إذا قطعها الموت كلمة مجملة تكتب من وراء القلب فتنفي الحرج وتدفع الملام وتشغل حيزاً من المجلة، ولكن ما كتبتماه يا أخوي نمط آخر غير ذلك كله: عبرات من الكلم لا يسكبها إلا قلب ابن بار على أب حنون، وزفرات من الأسى لا ينفثها إلا صدر مؤمن أسيف على أخ شهيد، وشهادتان لذوي عدل كل ما أتمناه على أهلي أن يدرجوهما في (كفني) لألقى بهما الله!
لقد مت في الجزيرة وكل حي سيموت، ولقد بعثت في الجزيرة وكل ميت سيبعث. والبعث عمر جديد وأجل مستأنف والمتنبي عاش طويلاً بعد أن بعث إلى سيف الدولة يقول:
يا من نعيت على بعد بمجلسه *** كل بما زعم الناعون مرتهن
كم قد قتلت وكم قد مُتُّ عندكم *** ثم انتفضت فزال القبر والكفن
وشتان بين من نعاني ونعى أبا الطيب! نعاه ناعيه للشماتة والعبرة، ونعاني ناعي للأسف والحسرة... والفضل لكما يا أخوي في أنكما حققتما لي أمنية لم تتحقق لحي من قبلي، وهي أن يقرأ الميت بعينيه ما كتب عنه بعد موته، مد الله في عمريكما حتى تعودا فتجودا بصيب الرحمة وطيب الرثاء ثراي المحرور في مثواي الجديد، والله يحفظكما " المخلص أحمد حسن الزيات.
أحسن الله إليك يا زيّات ! smile رمز تعبيري
وإذا ما كان قدَرُ الله قد أسعفَ صاحبَ مجلةِ " الرسالة " أن يقرأ ما سيُقال عنه بعد موته دون أن يكون له يدٌ في ذلك ولا قصد ، فإنه وعلى النقيض تماماً قد فعلَ صاحبُ جريدة المُقطم " فارس نمر باشا " !
فقد طلب فارس نمر من كبار محرري جريدته وهو على فراش الموت - بعد أن بلغ الثالثة والتسعين من عمره - أن يُعدوا كلمات الرثاء التي سيكتبونها بعد موته ليطّلِعَ عليها !
وأما سبب ذلك ؛ فلأن جريدته ( المقطم ) كانت لسان الاحتلال الإنجليزي في مصر ، وخشيَ وتوقعَ أنه سيُذكرُ بسوء ، فأراد أن يطمئن على مستقبله بعد موته ! smile رمز تعبيري
وبالفعل ، وقبل وفاته بيومين ، اطلّعَ ( فارس نمر باشا ) على العدد الخاص لوفاته من : مانشيتات ، ومقالات ، وإخراج ، وصور !!
جميلٌ - أظنه - أن تُطل من السماء على الأرض ، ومن الآخرة على الدنيا ، ومن الغيب على الشهادة !
جميلٌ أن يرى شبحُك حقيقتك ، ومآلُكَ أولَك ، ومُنتهاكَ في الآخرة مُنتهاكَ من الدنيا !!
وها أنا أُعلنُ - نيابةً عني – وفاتي ، فما أنتم قائلون عني ؟!
آيدن .